الجريمة الطائفية: مسؤولية النظام أم الطبقة السياسية؟

TT

سأل طالب عربي في جامعة لندن قبل 52 عاما زملاءه «المصاروة» عما إذا كانوا شيعة أم سنة. تساءل اثنان من الإسكندرية في استغراب «يعني إيه؟».

باستثناء الأزهريين وأكاديميي الفقه وتاريخ العصور الوسطى، لم يكن المصريون، في خمسينات وستينات القرن الماضي، سمعوا بسؤال لا يستوعبونه. أتذكر زملاء المدرسة الابتدائية لا بالأعراق أو المذاهب، بل بالأسماء (ومنها أيضا لا تعرف الديانة)، فالزوجة تتلقب باسم زوجها. أذكر سيفتلانو الإيطالي الذي تحول للإسلام ليتزوج الجارة «أبلة سميحة» فأصبحت مدام زابيتللي (أم سامح زابيتللي)، وتلميذا أبناء عمومته مسلمون، وأبناء خاله يهود، يونانيون أرثوذكس، وآخر بنات خالاته كاثوليك أو عماته روس. وتجد في عائلة واحدة عرقيات وديانات تفوق عدد أصابع اليدين. وكان المصري من أبناء جيلي لا يسأل شخصا عن دينه، فالخليط الثقافي كان اكسير النجاح الاقتصادي كالقاعدة لا الاستثناء، خاصة في المدن الساحلية والصناعية.

لذا جاء مقتل مصريين لأنهم «شيعة» على يد غوغاء في قرية كالصاعقة. فتعريف المفاجأة التي قد تصيبك بالشلل أنها ما وراء تخيلك، حتى في أحلك الكوابيس ظلاما منذ أن سمعت الإسكندرية مدافع النازي التي دحرها جنرال آيرلندي يقود جيشاً بريطانياً بين جنوده ما يزيد على 40 عرقية وديانة مختلفة.

خطورة الفاجعة أنها آخر فصول مهزلة وضعت مصر في قائمة الدول الفاشلة.

تعددت الأسباب، ومنها غياب كفاءة النظام الحاكم من قمته إلى مفصلياته. نظام «يغرق في شبر مَيّه» عند التعامل مع أمور يديرها يوميا مثل خباز أو كمساري ترام مبتسما. النظام يهدر طاقات وإمكانيات الأجهزة في محاولة السيطرة على أمور البلاد لمصلحة الجماعة وحلفائها.

ولعل مهزلة اختيار محافظ للأقصر مرتبط بجماعة إرهابية وراء مذبحة معبد حتشبسوت (مما سبب خسائر اقتصادية باهظة للسياحة فاستقال بعد أيام) هي قمة جبل ثلج الفشل الإداري للنظام العائم في محيط التخبط.

سبب آخر هو الغشاوة على العين الداخلية للمؤسسة السياسية (حكومة، وزعماء أحزاب موالية ومعارضة، ومعلقين وصحافة)، وللعقل الإداري للبلاد. سمعنا علنا ساسة وفقهاء دين يروجون للطائفية ويدعون للجهاد ضد الأديان (والمذاهب الإسلامية) الأخرى، وصمت المؤسسة السياسية الآذان، ولم تقدمهم الحكومة أو المدعي العام للنيابة لانتهاكهم قوانين مصرية (تهديد السلام والأمن العام؛ التحريض على العنف، القذف والتشهير... إلخ) والميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

ترى أي المصيبتين أعظم وأكثر هولا؛ عدم وعي الحكومة بأجهزتها، والمؤسسة السياسية، بخطورة هذه الدعوات وخرقها للقانون؟ أم وعيها بالأمر والسكوت عنه؟

ورغم قناعتي، كمؤرخ، بعدم كفاءة الحكومة في إدارة أبسط الأمور بما يلائم أمة في حجم مصر، تاريخيا، وجغرافيا، وبشريا وحضاريا، فإنها لا تتحمل وحدها المسؤولية عن كارثة القتل الهمجي الغوغائي لمصريين يمارسون فروضهم بطريقة تخالف توجهات الحزب الحاكم. عندما تقع جرائم على يد مخبولين، في أي مجتمع متحضر، ينشغل الأكاديميون واخصائيو السلوك الاجتماعي والنفسي في البحث عن الأسباب. وكثيرا ما تلوم الكنيسة، والمؤسسات المحافظة، الألعاب الإلكترونية الحديثة التي تحول أسلحة الفتك إلى لعبة أطفال، أو أفلام هوليوود التي يستخدم فيها البطل العضلات والرصاص قبل العقل. فهناك أسباب أخرى أهمها ما طرأ على الثقافة الديناميكية الاجتماعية للإنسان المصري من تغيير في نصف القرن الأخير، وطغيان ثقافة غريبة لم تنبت في تربة المجتمع المصري فجاءت بأضرار تفوق تأثير أفلام عنف هوليوود على أميركيين صرعوا أطفال المدارس ببنادق الكاوبوي.

فالمصري انشغل لآلاف السنين بالإنتاج الزراعي والمزرعي، كمستثمر نهري للجهد والمعرفة؛ ثم بالبناء والتشييد المعماري خارج مواسم الزراعة، أو في التجمعات الحضرية؛ ثم التصنيع والاستثمار في القرنين الأخيرين منذ نهضة محمد علي. ولم يعانِ المصريون حاجة اقتصادية للهجرة، بل على العكس تدفق المهاجرون من الجهات الأربع (والغزاة والمستوطنون أيضا) على مصر، وانصهروا في الثقافة المصرية المتسامحة المتساهلة الودود. وباستثناءات نادرة، جاءت احتجاجات المصري في شكل النكات الساخرة؛ ونشاطات أوقات الفراغ.. كان اللهو والرقص والمرح والطرب والترفيه خاليا من العنف (بعكس مصارعة الرومان بالسيوف، أو قتل الإسبان للثيران أو صيد الحيوانات).. لم ترق فيها قطرة دم منافس، أو حيوان أو طير. ومنذ الخمسينات تزامنت هجرة المصريين للعمل في الخارج (بفشل نظام يوليو اقتصاديا) وتعرضهم لثقافات مغايرة، مع ظهور الآيديولوجيات المعادية للغير في مصر. بدأت ظواهر الإعجاب بثقافة العنف وتصفيق صناع الرأي العام عندما يصوب نحو الغير، وزينت الصحافة المصرية بالآيديولوجية الناصرية جرائم يعاقب عليها القانون المصري (كخطف الطائرات والاغتيالات، والتفجيرات) كنضال ضد «الأعداء»، بينما مرتكبو «البطولات» غير مصريين في صراعات لا علاقة لها بمصر ومصالحها.

استمر النظام «المنتخب» بعد انتفاضة يناير (كانون الثاني) 2011، في خداع الرأي العام بشعارات مراحل نظام 23 يوليو (تموز) باستهداف «عدو» خارجي وهمي، مغيرا «النضال» إلى «الجهاد»، والمضمون (المخالف للقانون المصري) واحد، ومرتكبو «جهاد» العنف الذي غسل به العقل المصري الجماعي إعجابا في «بلاد بره» هم الآن الجماعة الحاكمة التي وطنته تمصيرا.

المثقفون المصريون وصناع الرأي العام يحملون النظام العاجز عن إدارة أمور البلاد المسؤولية عن العنف، وينسون دورهم لأكثر من قرن كمغلفي العنف ضد أخيهم الإنسان (غير المصري أو غير المسلم) وممتلكاته في ورق البطولة.

وقد تنجح مظاهرة المصريين الكبرى غدا (30 يونيو/ حزيران) في التخلص من النظام غير المؤهل (واحتمال العنف وارد للأسباب أعلاه)، وقد يتدخل الجيش إذا أشهر الجهاز السري للجماعة وحلفاؤها «جهادهم» في وجه المتظاهرين؛ وقد تظهر نسخة «أتاتوركية» مصرية لفرض القانون؛ ولكن هل يتبع هذا النجاح تخلص ثقافي اجتماعي من جرثومة العنف والكراهية التي تغلغلت جذورها في نخاع الشخصية المصرية؟

عندئذ نرى ثورة اللوتس الحقيقية.