المبادرة الـ«روحانية» المأمولة

TT

للمرء أن يتصور لو أن الفوز في انتخابات الرئاسة الإيرانية يوم الجمعة 14 يونيو (حزيران) 2013 كان من نصيب أحد الأربعة المحلقين في الفضاء المحافظ الشاهر تحذيراته للولايات المتحدة وإنذاراته لإسرائيل، والمتحرش ببعض دول الجوار الرافض أي انسحاب من الجزر الإماراتية الثلاث، الداعم أعماقه الحوثية في اليمن الذي ينشد الاستقرار، الممسك بإرادة القرار في «حزب الله» ومن أجل ذلك ارتأى إقحام عناصر من الحزب في الأزمة السورية متسببا في حدوث ارتباكات داخل المجتمع اللبناني، الأمر الذي حمل رئيس البلاد ميشال سليمان على أن يسجل في حق النظام البشَّاري شكوى كثيرة النعومة ومع ذلك لم يتحمل أقطاب «اللوبي الأسدي» في لبنان هذا التجرؤ من الرئيس فاعتبر أحدهم الشكوى الخفيفة الوطأة والظل معا أنها «فعل خيانة» وارتأى الرئيس وضْع أمر هذه الإهانة في عهدة القضاء.

للمرء أن يتصور لو أن الفوز كان من نصيب أحد هؤلاء (محمد باقر قاليباف. سعيد جليلي. علي أكبر ولايتي. محمد رضائي)، كيف كانت حال التوتر السائدة أصلا في علاقات إيران مع المحيط العربي وبالذات الخليجي وعبْر المحيط مع الولايات المتحدة وأكثرية الدول الأوروبية، ستزداد حدة. وهذا أمر طبيعي استنادا إلى مفردات حفلت بها مواقف الأربعة ومِن ورائهم مراكز القوى الأمنية والعسكرية الذين كانوا يقولون من الكلام ما هو من نوع الكلام الذي طالما سمعوه من الرئيس محمود أحمدي نجاد، ومعظم عبارات ذلك الكلام مثل القذائف.

من هنا فإن فوز حجة الإسلام حسن روحاني هو في حد ذاته لحظة بالغة الأهمية جاءت في الوقت الذي يحتاج الجميع إليها بدءا من الشعب الإيراني المْثقل بتداعيات النهج القائم على اعتماد سياسة غير مستحبة تقوم على التوظيف المذهبي لتحقيق غايات في النفس الإيرانية الطامحة إلى أن تكون باسطة النفوذ مع الوقت على المنطقة، وصولا إلى المجتمع الدولي الذي لا يريد حلا حربيا للطموح الإيراني النووي ويكتفي بالعقوبات عسى ولعل يساعد أصحاب الأمر في النظام الإيراني في إبقاء الحل المشار إليه بعيدا عن الاحتمالات، وبينهما القلق العربي وبالذات الخليجي والمصري الذي طالما أربك معظم المحاولات لتصحيح مسار التعامل.

جاء فوز حجة الإسلام حسن روحاني يشكِّل استراحة تهدئة للنفوس ويشجع على بناء أفكار جديدة كفيلة بترميم علاقات لا تغادر فضاء التوتر والقطيعة والحذر. وعندما أصغى الجميع إلى أقوال روحاني قبل يوم الانتخاب ثم مباشرة بعد إعلان الفوز المبهر فإنهم سجلوا من خلال برقيات تهنئة أو تصريحات ارتياحا للرئيس الخارج فوزه من صناديق اقتراع لم يمسها متدخلون وانتهت أرقاما لم يجرؤ القادرون على تعديلها.

الآن وقد لقي الرئيس المنتخب هذا الترحيب بنسب متفاوتة باستثناء إسرائيل الكارهة التجاوب مع أي تحولات نحو الاعتدال في الخطاب العربي - الإسلامي وهذا ما فعلتْه وما زالت إزاء «مبادرة السلام العربية»، فإن المأمول حدوثه مِن جانب النظام في إيران هو توظيف أجواء الارتياح العربية - الدولية على قاعدة الاعتدال، وهذا في تقديرنا مطلب شعبي شامل وليس فقط ما يتوق إليه الذين اقترعوا للمرشح روحاني. ولولا اعتقاد شرائح عريضة من الإيرانيين المتجردين بأن الفوز سيكون لواحد من المحافظين ومن أجل ذلك لم يشاركوا وفضلوا ملازمة بيوتهم لكان هؤلاء اصطفوا مع الملايين الآخرين ووضعوا ورقة الاعتدال في الصناديق وعندها تكون نسبة فوز روحاني بأكثر من 50.68 في المائة وربما بثلاثين مليون صوت وليس فقط 18.6 مليون.

والتوظيف كما يجوز افتراض مراحله هو بنزع صفات ارتبطت بالثورة الإيرانية ومنها على سبيل المثال لا الحصر أنها في الموضوع اللبناني أحدثت تشققا في الخصوصية ذات الطابع التعددي التي هي ميزات الاستقرار في هذا الوطن الصغير. بل إن التشقق بات يقود إلى أن الشيعة السياسية لا تحقق التطوير والتأهيل اللذين يحتاجهما أبناء الطائفة. على سبيل المثال أيضا إن الثورة الإيرانية جعلت الحذر الخليجي من ارتفاع منسوب تطلعاتها يقترب من درجة العداوة. كما أن انشغال طهران بتحويل المناطق الشيعية في بعض دول الخليج وفي اليمن إلى أوراق ضغط على حكومات تلك الدول زاد من نسبة الحذر ثم بدأت لغة التخاطب تتسم بالحدة التي تؤسس لعداوة، ولنا في تصريحات أشبه بالقذائف الصاروخية الدليل على ما نقول.

ومِن هنا القول إن خطوة جريئة تبدأها إيران الدولة بعدما لم يثمر المشروع الثوري سوى عزلة دولية لإيران ونفور أشقاء منها، وتنطلق من مفاهيم سياسة الاعتدال إزاء المواضيع التي أشرنا إليها ومنها موضوع الجزر الإماراتية الثلاث، كفيلة بتبديد معالم تلك الصفة، ذلك أن حالة هذه الجزر باتت مثل حالة لواء الإسكندرون مع فارق أن الرئيس بشَّار الأسد سلَّم بتركية هذه الأرض يوم كانت العلاقة بينه وبين الرئيس أردوغان في غاية الحلاوة، بينما أهل الحكم في دولة الإمارات ومعهم أشقاؤهم قادة دول مجلس التعاون دائمو التذكير عند إصدار بيانات عن مؤتمراتهم بالجزر والمطالبة بجلاء إيران عنها، لكن الرد دائما جاء بعبارات غير مُستحبة من مسؤولين إيرانيين وزيارات غير أخوية.. بل واستفزازية لهذه الجزر.

ويبقى الموضوع الأهم وهو المتعلق بالحالة السورية التي لا يختلف موقف الثورة الإيرانية من المحنة التي تعيشها سوريا منذ سنتين عن الموقف الروسي مما يعني أن الروس الذين لا يرف لقياداتهم جفن إزاء الدم الذي يراق يوميا والتدمير المتواصل الذي لم تَسلم مدينة منه، هو في قبول استمراره مثل الموقف الإيراني. وإذا كان الروسي المسيحي لا يعنيه المشهد اليومي للفاجعة، فإن الإيراني من واجبه رفْع المصاحف بين المتقاتلين وممارسة الواجب الحق على قاعدة تحديد طبيعة الظلم ونجدة المظلوم في الحد الأقصى وممارسة دور الوسيط في الحد الأدنى. ومع أن هذا لم يحصل مع الأسف وحصل نقيضه بدليل إقحام مقاتلين شيعة من العراق ومن حزب الله في لبنان ومن إيران نفسها في الموضوع السوري، إلاَّ أن الوقت لم يفت ومن قبل أن ينتهي أمر الموضوع السوري في اليد الدولية بدل أن يكون في عهدة الأخ المسلم العربي وغير العربي.

عسى ولعل يأخذ الرئيس حسن روحاني على عاتقه وبالتدرج من الآن وحتى التسلُّم الرسمي للرئاسة مطلع أغسطس (آب) 2013 أي في بداية العشر الأواخر لشهر الصوم المبارك، واجب تصحيح المسار بادئا عهده بمبادرة تتناول ترميم العلاقة مع المجتمع الدولي فلا يكون النووي عنصر تعطيل للتقدم مثل حال كوريا الشمالية. كما تتناول كل الموضوعات التي أشرنا إليها وانعكست ارتباكات على الوضع الاقتصادي للدولة التي خصها الله بثروة النفط لكي تتحول إلى دولة متقدمة تنصرف إلى التنمية تساعد الغير على نحو ما تفعل السعودية ودول الاقتدار المالي العربي وتحقيق الاستقرار، وليس إلى غير الذي حدث ولا يزال. فالثورة الإيرانية ما زالت تمارس القيادة وكأنما لم تبلغ سن التأمل والمراجعة والنقد الذاتي. ومن شأن الأخذ بالمبادرة وتفعيلها تنقية وجه الثورة الإيرانية التي كان مأمولا منها للأمة غير ما حصل من ندوب تراكمت نتيجة تغييب الاعتدال.