مقاومة بنكهة لبنانية

TT

سباق محموم بين مشعلي النار وإطفائيي الفتنة في لبنان.

الجيش يتعقب المسلحين، المجتمع المدني يتظاهر ويعتصم ضد المخلين والعابثين بالقوانين، وأصحاب المشاريع الثقافية والفنية يبحثون عن بقع آمنة يلوذون بها ليكملوا مشاريعهم، بعيدا عن إطلاق النار ودوي القنابل.

لم يتمكن أحمد الأسير، رغم معركته الضارية والدموية ضد الجيش اللبناني مساء الأحد الماضي، ووقوع ما يزيد على أربعين قتيلا، من إلغاء حفل «الموركس دور» الذي جمع عشرات الفنانين اللبنانيين والعرب، بكامل أناقتهم وزهوهم، أو حتى من تأجيل بث حلقة برنامج «سبلاش» الذي واصل أبطاله التباري في القفز في بركة السباحة، والرقص واللهو، متمنين السلامة للجيش اللبناني. في تلك الليلة أيضا كانت طرابلس تعيش على وقع أصوات الرصاص وفلتان المسلحين، وإقفال الشوارع، وتهديد الآمنين، وطريق الجديدة في بيروت قرب المدينة الرياضية يرتفع التوتر فيها حد التهديد بالانفجار.

وإذا كانت بعض الدول من عربية وغربية، حذرت مواطنيها من زيارة لبنان أو تجنب بعض الأماكن الساخنة، فإن زوارا كثرا جاءوا إما لتسلم جوائز وتكريمات مثل فاتن حمامة وليلى علوي وغادة عبد الرازق، وغيرهن، أو لإحياء حفلات فنية كبيرة على رأسهم يني وميشال ساردوا، وعشرات آخرون. هناك فنانون من الصين والهند وأميركا وفرنسا... ولا ننسى المشاركين العرب في برامج الهواة.

على فوهة البركان اللبناني، توج محمد عساف في برنامج «أراب أيدول» بطلا قوميا على عرش الأغنية العربية، وانتشل غزة من آلامها المعتقة. برنامج «أرابس جوت تالنت» في طور التسجيل، والمشاركون من العالم العربي كله يلتقون هنا، يتبارون ويكدحون. الجميع في بيروت كما المناطق الأكثر سخونة التي لا تريد أن تستسلم لحفنة من المخربين.

ما تزال لجنة «مهرجانات بعلبك»، تصر على أنها لن تلغي حفلاتها. الخطف شبه اليومي، والأحداث الجسام في البقاع لم تثنِ اللجنة عن إقامة مؤتمر صحافي كبير بحضور فنانين من الصف الأول، مثل مارسيل خليفة وعاصي الحلاني، لتعلن عن برنامج حافل. سقوط الصواريخ التي باتت تستهدف المدينة التاريخية، من الداخل السوري، يبدو أنه يزيد اللجنة عنادا على إقامة المهرجان ولو خارج بعلبك. لا مشكلة أيضا إذا كانت عائلتان قد جن جنونهما في الضاحية الجنوبية لبيروت، وخاضتا معركة حامية الوطيس بالأسلحة المتوسطة، هنا ما على الباصات التي تقل الناس إلى حفلات «مهرجان بيت الدين» سوى أن تعدل قليلا من طريقها المؤدي إلى جبل لبنان، بعبور الكورنيش البحري الذي هو بالتأكيد متعة للزوار، وتغيير للروتين. فإقفال شارع أو عشرة شوارع بالإطارات المشتعلة، ومعركة صغيرة هنا، كما اشتباك أكثر خطورة هناك، لا يثني أحدا عن المضي إلى سهرته أو الذهاب إلى مطعمه الأثير، حيث منطقة مستحدثة في مار مخايل وسط بيروت، تحتاج حجزا مسبقا، أحيانا، كي يفوز الراغب بجلسة هناك.

قد لا تكون الصدفة وحدها هي التي دفعت بلجان المهرجانات لأن تجعل من برامجها هذه السنة مشتهى للفرجة: «التحدي كبير، وعندما تكبر الصعاب على المرء أن يتجاوزها برفع السقف». هكذا قال ناجي باز المدير الفني لمهرجانات بيبلوس حين سئل عن سر برمجة أسماء كبيرة، في وقت يطغى فيه القلق على كل ما عداه.

ربما أن التحدي أيضا هو الذي دفع ببعض المسارح إلى برمجة مسرحيات حتى في الصيف، علما بأن التقاليد الثقافية كانت تقضي بإغلاق مبكر للصالات على اعتبار أن الجمهور يفضل الأماكن المفتوحة. وما ينطبق على المسارح يسري على غاليريات الفن التشكيلي التي تعلن عن معارضها وكأننا ما نزال في عز الموسم الشتوي.

يمطرك هاتفك الجوال في لبنان بأخبار قتل واشتباكات وقنابل، وإطلاق رصاص، وخطف وقطع طرقات على مدار الساعة. أمر يدعو لأن تسأل نفسك ألا يتوجب أن أستمتع اليوم، وأذهب حيث أستطيع، قبل أن يصبح الأمر أكثر صعوبة غدا؟!

التوجس قائم، المخاوف كبيرة، لكن كما للمسلحين مجالهم الحيوي، لعشاق الحياة هامشهم الذي يستثمرونه كما لو أنهم يحاصرون المخربين حد خنقهم في زوايا صغيرة.

خطوات من طرابلس بينما تكون الأسلحة ترش رصاصها ويصم أزيزها الآذان، يلهو الطرابلسيون على شواطئهم، كما لو أنهم لا يريدون أن يسمعوا شيئا.

معركة غير معلنة بين أقلية مشغولة بسلاحها وذخائرها وحقدها العنيف وأكثرية تحاول أن تحاصرها بالفرح واللهو، وكأنما لا شيء يعكر صفو الحياة في لبنان.

قد يكون جنونا أن يتصرف اللبنانيون وكأنما لا شيء يحدث في بلادهم رغم أن قلوبهم تتفطر حزنا، لكنه ضرب مفيد من الجنون، لعله أجدى أصناف المقاومة في مواجهة من قرروا فرض الشر على الآمنين.