اليوم.. يكرم الشعب أو يهان

TT

هذا العصر لا يعرف المنجمين، كل ما نستطيعه هو التحديق في لوحة الحاضر ومحاولة التعرف على طبيعة العلاقة بين ألوانها وما يمكن أن تنتج عنه من صورة كلية، أي واقع جديد بلغة السياسة. القوات المسلحة المصرية تنتشر الآن في طول البلاد وعرضها بعد أن نشرت تشكيلاتها لحماية كل المنشآت الحيوية، ملايين البشر نزلوا إلى ميادين القاهرة، وأخذوا طريقهم إلى قصر الاتحادية وأماكن أخرى، الهدف المعلن هو مطالبة رئيس الدولة بقبول عمل انتخابات رئاسية مبكرة بأمل أن يفشل فيها ولديهم كل الأسباب التي تدعم هذا الأمل. غير أن رئيس الدولة وجماعته، من المستحيل أن يوافقا على هذا الطلب. لأنهما يعرفان جيدا أن النزول عن سدة الحكم، تحتم السير في طريق ينتهي بسجن طرة ثم الدخول في معمعة المحاكمات التي لا تنتهي، وأنه حتى الأمل في أحكام براءة، ستقف لها بالمرصاد تلك الجملة الشهيرة «ما لم يكن مطلوبا أو محبوسا على ذمة قضية أخرى»، ستكون هناك دائما قضية أخرى. أوضح الألوان في الصورة هو الشرعية، شرعية الحكم، هي علاقة تعاقدية، الطرف الأول فيها هو الشعب الذي اختار الرئيس ليحكمه لمدة أربعة أعوام، وهو عقد - كما يعتقد الطرف الثاني - ليس قابلا للإلغاء، غير أن الطرف الأول يرى أن العقد مفسوخ من تلقاء نفسه لعدم وصول البضاعة المطلوبة والمتعاقد عليها إلى الشعب وهي العيش والحرية والكرامة الإنسانية.

المدهش والمثير، أن نظام الحكم نفسه هو أول من قام بضرب شرعيته في مقتل وذلك عندما تمت محاصرة مبنى المحكمة الدستورية العليا. من حاصروا مبنى المحكمة وروعوا القضاة لم يأتوا من الفضاء الخارجي. أنا أعتقد أن اللاوعي الجمعي للمصريين في تلك اللحظات اتخذ القرار بانعدام شرعية النظام، وأن ما يعطي النظام الحق في محاصرة أكثر الرموز شرعية في العصر الحديث، هو ذاته ما يعطي للشعب الحق في محاصرة النظام وإلغاء تعاقده معه. عندما تسقط الشرعيات، ستوجد إلى الأبد شرعية القوة مع كل احترامي للجملة الشهيرة لفيلسوف الحكم الإنجليزي جيمس ستيوارت مل «القوة لا تنتج حقا شرعيا».. بعيدا عن النفاق السياسي وخداع الذات، كانت القوة هي الوسيلة الوحيدة لاستعادة الشرعية في مكان تنكر فيه أصحابه للشرعية وأهانوها. والقوة الوحيدة القادرة على استعادة الشرعية في مصر هي القوات المسلحة ورجالها الذين قيل عنهم إن رجالها من ذهب. غير أنه على أصحاب هذه المقولة أن يعرفوا أن الرجال الذين صيغوا من الذهب لن يعملوا لحساب هؤلاء المصنوعين من الصفيح. القوة تكتسب شرعيتها من طبيعة الطريق الذي ستمشى فيه. عندما تمشى في طريق العدل والنزاهة العقلية والخلقية والوضوح والصدق مع الذات والغير، ستفوق شرعيتها كل شرعيات الدنيا. وفي كل الأحوال، ومهما يحدث، العدالة لها اسم واحد هو العدالة. لا يوجد ما يسمى العدالة الثورية أو العدالة الانتقالية، هناك العدالة فقط. العدالة ليست في حاجة إلى إضافات أو مكسبات طعم.. على الثوار أن يعرفوا ذلك.

لا مفر من أن يكون أصحاب القوة هم المسؤولين عن الشرعية، إنه الواجب كما يفرضه الشرف الإنساني. اليوم مساء ستعرف أنت وأعرف أنا مدى ما في هذا التحليل من صحة وخطأ..