سوء المنقلب!

TT

لماذا ضل إخوان مصر خارطة طريق حديثة للحكم؟ الأسباب كثيرة ومعقدة، منها التاريخي ومنها الإداري، وما استخدامي هنا كلمة «ضل وضلال» إلا استعارة من بيان الجيش المصري، الذي قال فيه إنه سوف يضع «خارطة طريق للمستقبل»، حيث ضلت القيادة تلك الخارطة، إذ الضلال هنا للطريق وليس لشيء آخر!

مشروع الإخوان يعتمد على أن يتمكن التنظيم من حكم مصر ثم يتوسع إلى الإقليم في تصور لا تاريخي لقيام الخلافة! سمي المشروع «التمكين» لأنهم يعلمون، كما يعلم أي متابع للتاريخ الحديث، أن مصر هي مفتاح الشرق وبها ومنها تنطلق تصورات الحكم والإدارة.

بدا أن وصول رئيس جمهورية من الإخوان يقدم لهم فرصة تاريخية وربما غير مكررة أن يتقدموا في ذلك المشروع، ما غاب عنهم أن المشروع لم يكن حداثيا ولم تبذل جهود لتحديثه، فقد سلب منه مسبقا بعض قوته، ومنها الموقف تجاه إسرائيل، فلم يسمح لهم باستخدام تلك الورقة دوليا إلا بشكل منخفض، أي العلاقة مع حماس وضبط علاقتها بإسرائيل، كما سلب من المشروع تصور اقتصادي متكامل بسبب فقر شديد في التصور وتقاعس في رفد الاحتياطي المصري بما يخفف من الأعباء اليومية للمواطن المصري. كما فاتهم تقدير موقف ظرفية صعود رئيس منهم، حيث صوت البعض له خوفا من الآخر لا رغبة فيه. بقيت بعض الأوراق التي لم تلعب بالطريقة الصحيحة، منها السياسة الخارجية، فقد تلكأ الحكم الإخواني في الملف السوري، كما أبدى عداء سلبيا في الملف الخليجي من طريقين، الأول مغازلة إيران، وهو أمر شكك في صدقية الحكم عربيا وأثار حفيظة قطاعات واسعة داخلية وعربية، والثاني إظهار الشوكة من خلال تنشيط الخلايا النائمة، كما حدث في دولة الإمارات وبعض دول الخليج. واتضح على سبيل اليقين أنه لا خارطة طريق واضحة للحكم في مصر غير التمكن السريع من مفاصل الدولة وأدواتها وعزل وتهميش كل القوى الأخرى عن طريق بذل الوعود والنكوص بها، والتقدم والتراجع في ملفات حساسة، مما أوصل الحكم الإخواني إلى سوء المنقلب الذي حدث.

من بين الأسباب الحاكمة لسوء المنقلب الخمسة التالية:

أولا: التربية الحزبية للإخوان، حيث بقوا ردحا من الزمن، بقرار منهم أو استجابة إلى الظروف الموضوعية التي أحاطت بنشاطهم، في خوف ورهبة من الآخر، وتحت المطاردة من السلطة غرزت تلك التربية في الجماعة مجموعة من الخصال متعارضة مع الحد الأدنى من آليات الحوكمة الرشيدة، ولا تسمح لهم أن يحكموا دولة عصرية، من هذا الإرث أنهم استبدلوا بآلية الديمقراطية في ما بينهم، آلية الطاعة المطلقة، وهي طاعة تفتقد للحد الأدنى من النقاش أو إتاحة هامش للمناورة، فالمخالف منهم لرؤية القيادة منبوذ، وقد وثقت هذه الآلية في صورتها الصلبة في عدد من كتابات من ترك التنظيم الإخواني، وهم الأكثر كفاءة، لأنهم يستخدمون عقولهم، أما من بقي من أهل الطاعة فقد انتزعت عنهم المبادرة الرصينة وبقي من هو أكثر قدرة على المزايدة والخضوع للأوامر، تلك التربية هي التي أنتجت السرية التامة في العمل، والسماح بالقول باتجاه والفعل باتجاه مخالف، أي إظهار شيء وإبطان شيء آخر، إلى درجة تسويق ما عرف بـ«الكذب السياسي المبرر»، وعلى رأسه إطلاق الرئيس السابق الكثير من الوعود وعدم وفائه بوعوده، مما أفرز نتيجتين؛ الأولى ثقة كبيرة بين أهل التنظيم، وشكوك عميقة في الآخر المختلف، الأخيرة دفعتهم في طريق التمكن من الدولة بخطوات سريعة وغير مدروسة إلى حد التسرع في توظيف أهل الثقة وإبعاد أهل الخبرة، وظهر تعبير «الأخونة» في الإدارة المصرية، إشارة إلى تلك الهرولة للتمكين، وهي أخونة تفتقد إلى الحد الأدنى من الكفاءة.

ثانيا: تراتبية العمل الإخواني بقيادة المرشد جعلت من العمل السياسي العام «مزدوجا»، فالمرشد له الأمر والطاعة من دون أن تترتب عليه مسؤولية، والمنفذ (الرئيس أو المحافظ أو أي موظف كبير) يقوم بالتنفيذ من دون أن يكون له رأي في ما ينفذ، وقد ظهر ذلك جليا في تعيينات المواقع الحاكمة التي قامت بها الجماعة في مصر في الأشهر الأخيرة الماضية كالمحافظين ورجال النيابة والوزراء، كما ظهرت في عداء شامل للآخر من خلال نبذه وإلصاق التهم المنكرة به، مما سبب نفورا واسعا لدى قطاعات من الشعب ومن الإدارة الحكومية نفسها، وكانت بعض تلك القطاعات، في البداية، مستعدة لتقديم هامش من التسامح للحكم الإخواني، لعل فيه شيئا من الخير!

ثالثا: ليس هناك في الحكم «مشروع سهل» ولكن هناك «حسابات ذكية»، فلم تكن فكرة التمكين سهلة، إلا أن ما جعلها تتهاوى افتقاد الذكاء السياسي. كان من المفروض أن تتيح حياة السجون لعدد كبير من قيادات الإخوان اكتشاف الهوة بين التفكير النظري القديم القادم من اجتهاد المؤسسين، وبين الواقع العصري الذي وصلت إليه الشعوب في القرن الحادي والعشرين، شعوب الشرق والغرب، حدث ذلك في تجارب شعوب وقيادات أخرى مثل جماعات الجيش الجمهوري في آيرلندا، ولكن المثال الأهم في تجربة نيلسون منديلا وجنوب أفريقيا، كان من المفترض على رأس تلك المراجعة درس «عدم تهميش الآخر»، إلا أنه سرعان ما نسي الإخوان تهميشهم السابق وكرروه على غيرهم بسرعة شديدة، شاهدناها في مكانين على الأقل؛ الأول في قطاع القضاء على حساسيته الكبيرة، وفي قطاع الإعلام الذي لم يعد إعلام مؤسسات وشركات، بل أفراد من خلال وسائل الاتصال الجديدة التي لا يمكن التحكم بها، لقد ضاق الإخوان بالرأي الآخر وضاقوا بعمليات القضاء، فدخلوا معارك أفادت بنشر الذعر على الحريات.

رابعا: بسبب التربية المغلقة للإخوان والتآلف في ما بينهم إلى درجة التزاوج وتداخل الأسر، جعلهم ذلك مجموعة شبيهة بـ«المافيا»، فلم يعيروا اهتماما أو يعترفوا بالاختلاف الثقافي، الذي هو طبيعي في أي مجتمع بشري، وتبنوا احتكار الهوية الثقافية، يضاف إليها شيء من التفويض الإلهي، وهي ليست خاصة بهم وحدهم، الأمر الذي جعلهم يرفضون الاعتراف بالاختلاف ويسعون إلى الدمج القسري، فاتجهوا إلى فتح جبهة مع المثقفين من خلال صراع وزير ثقافتهم، وأهل السياحة، بل وحتى أهل المال.

خامسا: افتقد الإخوان «القيادة» البصيرة والرؤية الآملة ولم يتلفتوا إلى الانعطاف التاريخي الذي تمر به الشعوب في أرجاء المعمورة، ولم يكونوا قادرين على التصالح مع العصر، بقوا في الماضي بكل ما يحمله من رموز وشعارات وكل ثقله التاريخي، ودخلوا السياسة من باب الضغينة لا من باب الإنجاز التنموي، فإدارة الدول في جوهرها تعظيم المنافع وتقليل التكاليف «السياسية»، فعكسوا الأمر إلى زيادة التكلفة وتقليل المنافع. جل ما فعلوه أن حملوا على كل مخالف أنه «فلول»، وكل ناقد على أنه إباحي، مما سبب ركوبهم المكابرة والعناد الذي دل على ضعف سياسي حتى أفقدهم العناد الرؤية ثم السلطة.

سقوط المشروع الإخواني في طبعته «المرسية» قد يترك تداعيات على تنظيمات أخرى مشابهة، مفادها تأكيد خواء الشعارات عند احتكاكها بالواقع، وقد تظهر لنا الأيام المقبلة من المفاسد المرتكبة ما يجعل صدقية التنظيم في أكثر من موقع في مكانة متدنية أمام الجمهور العربي العام.

آخر الكلام:

المرحلة الإخوانية العربية في طبعتها «الأربكانية» التي مثلها مرسي سقطت، فهل يبحث شباب الإخوان بجدية عن مرحلة «أردوغانية»؟ لننتظر ونرَ!