ديكتاتورية الديمقراطية

TT

في كثير من الأحيان ينتابني الشعور بالخيبة من بعض المفكرين والمثقفين وحتى السياسيين عندما أسمع بعض المناقشات والحوارات حول النظام السياسي الديمقراطي ومدى وجدوى تطبيقه في العالم العربي، حيث يتصور الكثيرون أن الديمقراطية «كالعصا» السحرية التي يمكن بواسطتها التغلب على جميع المشكلات والرواسب العالقة في المجتمع وإمكانية نقل هذه المجتمعات بين عشية وضحاها من التأخر والتخلف إلى مجتمعات متحضرة ومتقدمة، من دون البحث بشكل علمي في مخاطر هذا النظام الديمقراطي ومساوئه ومدى تلاؤمه مع المجتمعات العربية.

فمثلا يمكن أن يتحول النظام الديمقراطي إلى نظام ديكتاتوري بواسطة الأغلبية، ولو كانت هذه الأغلبية بسيطة جدا بحيث لا تتجاوز 50,1%، والتي يمكننا أن نسميها ديكتاتورية الديمقراطية. في الحكم السياسي الديمقراطي يسلم المجتمع - ومن ضمنه المعارضة - الحكومة المنتخبة ديمقراطيا كل صلاحيات اتخاذ القرارات من أجل إدارة البلاد وصولا إلى الانتخابات التي تليها، ولا تبدأ المعارضة على العمل وبكل الطرق إلى إسقاط الحكومة المنتخبة شرعيا، مثلما حصل في الانتخابات الأخيرة بمصر، التي نرى نتائج إفرازاتها السلبية والتهديدات الجسام التي تهدد ليس النظام السياسي فحسب، وإنما جميع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. فعلى سبيل المثال عندما قررت الحكومتان البريطانية والإسبانية عام 2003 المشاركة في غزو العراق كان أكثر من 84% من البريطانيين و90% من الإسبان ضد المشاركة في احتلال العراق، ومع ذلك لم تتقيد الحكومتان بالرغبة الشعبية وشاركتا في احتلال العراق. في الحقيقة لا يمكن القول بوجود ديمقراطية مطلقة، بل ديمقراطية نسبية، حيث إن تطبيقها يختلف من بلد إلى آخر حسب درجة الوعي والنضج التي وصل إليها المجتمع المدني. الديمقراطية لا تتم دفعة واحدة وبشكل كامل، لكنها تبدأ بشكل بسيط وتنمو وتكتمل وتنضج مع مرور الزمن عبر نضال الشعوب ورعايتهم لها وتمسكهم بها وإيمانهم بمبادئها. والنضج الديمقراطي يحتاج إلى حقبة من الزمن ومرحلة كبيرة من المخاض الاجتماعي والسياسي والفكري تسوده الصراعات والتجاذبات والتضحيات التي يدفعها المجتمع كثمن من أجل الوصول إلى هذه المرحلة. على سبيل المثال فإن مرحلة «النضج» الديمقراطي في المجتمع التركي مثلا استغرقت عشرات السنين، دفع خلالها الشعب التركي ثمنا باهظا إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن، حيث عانى من الانقلابات العسكرية المختلفة بحكم صراع الأفراد والأحزاب للوصول إلى السلطة. كما أن لـ«النضج» الديمقراطي كذلك علاقة «وثيقة» بالتربية، حيث تبدأ من المنزل وصولا إلى جميع مؤسسات التعليم وعلى كل المستويات.

- يمتلك النظام السياسي الديمقراطي طرقا وأساليب كثيرة للتحايل والخداع كبقية الأنظمة الأخرى، حيث تجري فيه إمكانية اتخاذ قرارات لا تتناسب ومصلحة البلاد، بل وفي بعض الأحيان تتخذ بعض الأحزاب قرارات مخالفة لقيمها ومبادئها لأن قيادة الحزب تسعى للمحافظة على بقائها في السلطة. عندما تريد قيادات بعض الأحزاب أن تمرر شيئا من هذا القبيل، فتبدأ من الأعلى إلى الأسفل وبواسطة وسائل الترغيب والترهيب التي لديها وبالضغط على أعضاء حزبها وبتحريك مفاصل الكيان السياسي يتم التصويت بالطريقة «الديمقراطية»، وبالتالي تمرير القرارات التي تسعى إليها قيادة الحزب بثوب «ديمقراطي».

إضافة إلى ذلك في الديمقراطية يتم «سرقة» الأفكار والمشاريع الجيدة التي تطرح من قبل المعارضة ويتم نسبها إلى الأغلبية البرلمانية. الأفكار التي تقدمها المعارضة في البرلمان ترفض أولا في جلسات البرلمان، ولكن بعد أسابيع قليلة تقوم الأغلبية البرلمانية بتقديم هذه الأفكار أو المشاريع ذاتها إلى البرلمان للتصويت عليها وكأن الفكرة فكرتها والمشروع مشروعها.

- لا يعد النظام السياسي الديمقراطي النظام الأمثل في تداول السلطة، لكنه من أفضل الأنظمة المتوفرة لدينا الآن. إن الديمقراطية ممارسة وعملا، لا يمكن أن يطبقها إلا من يؤمن بها إيمانا كاملا، وإن تطبيقها يبدأ من قمة أفراد المجتمع أولا، ومن ثم يجري تحقيقها على أرض الواقع، فلذا يجب علينا ألا ننتظر من الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي أن تجلب لنا الديمقراطية أو من الفاسدين أن يجلبوا لنا الإصلاح والتغيير لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

المثل الغربي يقول: «ليس كل ما يلمع ذهبا»، ونحن علينا أن ندرك بأن للديمقراطية مساوئ ومحاسن يمكن أن تنقلب إلى الديكتاتورية في أي لحظة من لحظات العمل السياسي، ومع ذلك ورغم كل مخاطرها فأنا من الذين يؤمنون بها.

* نائب ألماني سابق من أصل سوري