إنجيل جيفرسون

TT

كان الرئيس توماس جيفرسون من أكثر رؤساء الولايات المتحدة تحررا وعقلانية وعلمانية. وكان قد درس القانون والقضاء وأحاط نفسه بثقافة عالية وشاملة. وقد تأثر بكل ذلك فعبر عن مزاجه وسعة اطلاعه هذا في كتابته لبيان الاستقلال، The Declaration of Independence، الدستور الأميركي. حاول أن يدخل فيه مادة لتحريم الرق، بيد أن مجلس الكونغرس حذف ذلك. ولكنه في الأيام الأخيرة من حياته تناول الكتاب المقدس (الإنجيل والتوراة) فأخذ المقص واقتطع منه سائر الصفحات التي تتضمن معجزات وحكايات ميتافيزيقية وكل ما اعتبره لا يتماشى مع العصر، ثم أمر بطبع ما تبقى منه في إنجيل جديد لتوزيعه على الكنائس وبصورة خاصة لتعليم العبيد. ما أبقاه من الكتاب المقدس كان التعاليم الأخلاقية والروحية وما ينفع الناس من حكيم القول. وقد عرف النص الجديد باسمه «إنجيل جيفرسون» The Jefferson Bible الذي اطلعت عليه مؤخرا.

وكان من أهم المبادئ التي اختطها للحياة السياسية في الولايات المتحدة الفصل بين الدين والدولة، الأمر إلى يفسر لنا هذا التناقض الذي يلمسه الإنسان في هذا البلد. فيعتبر الشعب الأميركي من أكثر الدول الغربية تمسكا بالدين المسيحي. وهكذا نشأت بينهم حركة الأصوليين The Fundamentalists، وهي الفئة المتشددة التي عرف عنها تضامنها مع الحركة الصهيونية اعتقادا بأن إسرائيل تمثل الأرض الموعودة لليهود في الكتاب المقدس. وهناك منطقة واسعة من أميركا تعرف بالحزام الإنجيلي The Bible Belt، المنطقة المسيحية المتزمتة.

ولكن على النقيض من ذلك نرى الدولة تتحاشى تماما ذكر الدين أو ذكر أي رمز من رموز أو طقوس المسيحية. فلا يجوز لأي مؤسسة رسمية أن تضع شجرة الكريسماس أو أي زينة في مبناها في أعياد الميلاد أو الفصح أو تشير إلى المناسبة. وجرت العادة أن تقدم التهنئة بالكريسماس أو أي مناسبة دينية بعبارة «نقدم لكم أحر تهاني الموسم» (season). ولك أن تختار من الموسم ما يعجبك. وليس من شأن رئيس الجمهورية أو حكومته أن تعبر عن أي شيء يؤكد على ارتباط بالدين. أي شيء من ذلك يثير ضجة في الولايات المتحدة فيعتبر تدخلا من الدولة في الشؤون الدينية. ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ولا يجوز الخلط بينهما.

يقوم هذا الفصل الحدي بين الدين والدولة على المبادئ التي ضمنها توماس جيفرسون في بيان الاستقلال. ولا شك أنها تعززت عبر السنين بضرورات التعايش بين الطوائف والأديان المختلفة التي وفدت إلى الولايات المتحدة وتجمعت عبر الأجيال وما زالت تفد وتتجمع، ولكل منها إيمانها ومعتقداتها وطقوسها وتعاليمها. تعلم المسؤولون الأميركيون أن فصل الدين عن الدولة خير وسيلة لتحاشي المحاككات والمنازعات بينها.