انتخبوا تصحوا!

TT

تنهد صاحبي بعمق وقال: لم أرشح نفسي لا بسبب المقاطعة ولكن بعد تفكير عميق وجدت أن الطرق لا تنتهي إلى محطات نهائية في العمل السياسي الكويتي، إنها دائرية بامتياز. تذكرت قولا آخر لصديق مخضرم آخر وكان عضوا في عدد من المجالس السابقة، قال، إنه في المرحلة الأخيرة شعر وكأنه الطفل الذي يصحو من النوم كارها الذهاب إلى المدرسة، لأنه ذاهب إلى المجلس! هناك حالة من العزوف من قبل عدد غير قليل من النخب السياسية، فللمرة الثانية تقوم المحكمة الدستورية بإبطال مجلس الأمة (البرلمان) بعد أن أبطلت برلمانا قبله ليس بأكثر من عام مضى، والبطلان في كلتا الحالتين جرى لأسباب إجرائية أخطأت في ضبط خطواتها ماكينة الاستشارات الحكومية، أو هكذا يعلل البعض تلاحق الإبطال. أصبح للكلمة (إبطال) جرس جديد في الحياة السياسية. مع قفل باب الترشيح الأسبوع الماضي بقي في الساحة نحو 400 مرشح، هذا العدد يعني على أرض الواقع تشتيت الأصوات، ويعني أيضا إمكانية التوسع في شراء الأصوات التي بدأت المجالس الكويتية تشير إليه وتتابعه الصحف علنا، ومما يزيد من حالة الإحباط الحديث المعلن عن (انتخابات فرعية) وهي محرمة قانونا لأنها تصادر فكرة تكافؤ الفرص.

على خلفية الخلاف على توزيع الأصوات في الانتخابات التي جرت على قاعدة خمس دوائر، ينتخب فيها المواطن أربعة أعضاء يمثلونه في البرلمان، وكان ذلك منذ عام 2005. وبعد تعثر سياسي، لم يكن الشارع بعيدا عنه، رأى أمير الكويت أن يغير في عدد الاستحقاق الانتخابي على قاعدة (صوت واحد للناخب الواحد) وصدر ذلك بمرسوم ضرورة، جاء على أثره المجلس الذي أبطل أخيرا، وبعد أن حصنت المحكمة الدستورية (صوتا واحدا للناخب الواحد) وجدت أن اللجنة التي جرت تحت إشرافها الانتخابات، وقد صدرت بمرسوم أيضا، غير دستورية، فجاء قرار المحكمة على طريق (لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم) أي تحصين الصوت الواحد، وإبطال مجلسه على خلفية عدم دستورية لجنة الانتخاب!

الدعوة للانتخابات التي سوف تتم في 27 يوليو (تموز) الحالي سوف تصادف تقريبا 18 رمضان، وتصبح أول انتخابات عامة في رمضان في أي دولة إسلامية لديها التزام بصناديق الانتخاب!

رمضان في الكويت له طابع خاص، فهو الشهر الذي تجدد فيه العلاقات الاجتماعية، سواء كانت أسرية أو اجتماعية، بل تقوم الأسرة الحاكمة، كمجموعة أو أفراد لهم ديوانيات خاصة باستقبال المهنئين، وهي مناسبة تتضاءل فيها الاحتكاكات السياسية ويعلو فيها التوافق الاجتماعي، بل إن الكويت تسهر في ليالي رمضان، خصوصا الأسابيع الأولى منه في ظاهرة اجتماعية قل نظيرها، تنتقل فيها مجموعات من البشر زرافات من ديوانية إلى أخرى مرددين (مبارك عليكم الشهر)، كما أنه لا فجور في الخصومة (خليك صايم) ولكن العمل السياسي يتلازم مع صراع يكاد يكون شخصيا، في غياب تنظيمات سياسية كما تصاحبه الكثير من الإشاعات والتجريح، ذاك يتنافى، من حيث المبدأ مع الصيام، إضافة إلى أن العمل السياسي عادة ما يصاحبه ظاهرة غير مستحبة هي مجافاة الحقيقة، وأيضا يتنافى مع أجواء رمضان. فنحن والحال ذاك أمام ظاهرة يحسن رصدها اجتماعيا.

الأحاديث تخلتط أهو (مبارك عليكم الشهر) أم (بارك الله فيكم أبي صوتكم) أم (يا جماعة لا تخلوني)؟ من العبارات التي تردد أيام الحملات الانتخابية، إلى درجة أن الكويتيين غير المشهورين بإطلاق النكت، بدا بعضهم يطلقها في وسائل الاتصال الاجتماعية، تحمل تهكما غير مبطن على تلازم المناسبتين وتتناقض أغراضهما في نفس الوقت.

تحوطا لأي ثغرات قانونية، كان لا بد من الانصياع للتوقيت، الذي جاء في رمضان، وهكذا أصبح الأمر على طريقة (مرغم أخاك لا بطل)!

لا تنتهي القصة هنا، فهناك شرائح سياسية واجتماعية رحبت بحكم المحكمة على أساس أنه القول الفصل فيما اختلف فيه، وأعلنت نيتها المشاركة في انتخابات رمضان، على صعوبتها، وهناك آخرون أعلنوا أنهم ثابتون على المقاطعة إكمالا للمقاطعة التي حدثت في السابق، وطرف ثالث يريد أن يبقى في مرحلة رمادية انتظارا للتطورات القادمة على أمل أن يحدث تغيير في طريقة التصويت من خلال المجلس المقبل، فقاطع هو ورشح أخاه، في منظر سريالي يفوق خيال عادل إمام!

أظرف ما يصاحب النقاش السابق ما يقوله المختصون في القانون الدستوري أو حوله، فكثيرا ما تضج وسائل الإعلام في الكويت بعد أي نقلة سياسية بالفتاوى الدستورية، بعضها يسمح وبعضها يعارض، وهي ظاهرة لها العجب، فكل يقرأ الحدث بمنظار مختلف ومن خلال تدريبه القانوني أو مواقفه السياسية إلى درجة أن أحد الظرفاء كتب يقول، نحتاج إلى توحيد مركزية الفتوى الدستورية كحاجتنا إلى توحيد مركزية الفتوى الدينية!

المشكلة لا تكمن في عدد الأشخاص الذين يسمح للناخب اختيارهم، بل هي أعمق من ذلك، فهناك عوار هيكلي، إن لم يتمكن المجتمع الكويتي من إصلاحه، سوف تظل الأزمة تتلون بألوان مختلفة وتختفي لتظهر من جديد. يكمن العوار الهيكلي في ظاهرتين؛ الأولى، أن العالم لم يشهد (صناديق انتخاب) من دون (تعددية قانونية حديثة)، الكويت الوحيدة في عالم التصويت التي ما زالت لم تقنن التجمعات السياسية المنظمة والقانونية، لذلك يلجأ الناس إلى تعدديتهم الاجتماعية، والثاني، أن الكويت الوحيدة التي كتب رجالها دستورا وجرى اعتماده لمدة نصف قرن كامل من دون تطوير، في الوقت الذي سمح كاتبوه أن يعاد النظر فيه وتطويره بعد خمس سنوات من العمل به!

هذا العوار الهيكلي لا يرغب أحد في مناقشته أو النظر إليه، إضافة إلى ما ثبت عمليا أن الديمقراطية هي ثقافة قبل أن تكون نصوصا، هي إيمان بالمساواة والمواطنة قبل أن تكون شعارا للاستهلاك، هي وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، الغاية هي الوصول بالمجتمع إلى تحقيق غاياته في التنمية والاستقرار والتقدم. غاية الأمر أن تجربة امتدت نحو نصف قرن لم تتجذر خلالها الممارسة الحقة ثقافيا لأن المنظومة الثقافية لم تهضم تلك الفكرة وفلسفتها، فبدلا من الوفاق في نهاية الأمر حل الشقاق. زبدة التجربة الكويتية أن المنطلقات أدت إلى نتائج سلبية للغاية، والممارسة قادت إلى تشرذم من جهة، وتحقيق مصالح ضيقة من جهة أخرى، وصراع عبثي من جهة ثالثة مما قاد إلى حالة عزوف. المؤلم أنه لم يجر حوار مجتمعي للبحث عن مخرج حقيقي لدورة التفاؤل/ التشاؤم المغلقة، التي تحيط بالمجتمع الصغير الذي كان من الممكن أن يحقق مسارا أفضل. توقعي أن انتخابات رمضان سرعان ما تنخرط نتائجها بنفس المسارات الدائرية، مع اختلاف في الأشخاص لا غير.

آخر الكلام:

دماء على أرصفة القاهرة دليل آخر على ما وصلت إليه الممارسات السياسية العربية من انحطاط، أصبح القتل هو اللغة بديلا عن الحوار المتحضر، وبعد أن عاث الاقتتال الأهلي فسادا في العراق ولبنان وسوريا انتقل إلى مصر، لا أحد يعرف إلى أين سوف يوصل هذا المسار؟!