وعادت مصر للعرب

TT

كان تعبيرا موفقا ذلك الذي استخدمه رئيس الوزراء المصري الجديد حازم الببلاوي في أول حوار له، عقب توليه منصبه، مع هذه الصحيفة، أول من أمس (الجمعة)، وذلك حين أكد أن «مصر عادت إلى العرب»، ذلك أنه تعبير مختصر ومكثف في توصيف المشهد القائم بمصر اليوم.

لم تزل الإدارة الأميركية تقدم رجلا وتؤخر أخرى في مشكلات المنطقة وأزماتها؛ في مصر بعد 2011 وبعد 30 يونيو (حزيران) وتجاه الأزمة السورية وتجاه المحور الإيراني من قبل ومن بعد، والقائد المحتار والمتردد لا ينجح في صنع الفارق، بل في خلق الفراغ، وقد أثبتت دول الخليج العربي في كل الملفات الساخنة في المنطقة أنها قادرة على حماية مصالحها حتى حين يتردد حلفاؤها أو يتخاذلون.

بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين فإنه لا أسوأ من الخيارات الفاشلة سوى إدمان ارتكابها، ولا يساوي الفشل في قيادة الدولة إلا الفشل الأكبر بعد سقوط حكمها في الانحياز الكامل والشامل لمعهودها الآيديولوجي المتشدد بدلا من التفتيش عن توافقات سياسية وخيارات براغماتية تضمن عدم إلغائها من المشهد، أو تقلل من الأضرار الكبرى التي تسببت لنفسها فيها.

العودة للآيديولوجيا الإخوانية العتيدة يمكن رصدها عبر عدة مستويات: المستوى السياسي، حيث العودة إلى خطاب الستينات، الذي يرى السياسة من خلال ثنائيات سيد قطب الشهيرة «الحاكمية/ الجاهلية» و«العصبة المؤمنة/ التكفير»، ونحوها من مفردات التطرف الديني في تناول الشأن السياسي، هذا على مستوى الخطاب السياسي، أما على مستوى الممارسة، فالجماعة قد اختارت بوعي أن تستمر في تواصلها القديم الجديد مع المحور الإيراني، وهي تسير بتواصل واستمرارية في توثيق هذه العلاقة على الرغم من أن هذا الخيار الفاشل كان واحدا من أهم أسباب إسقاط حكم الجماعة لبلد بحجم مصر.

كما أن هناك مستوى الخطاب الخرافي، الذي يضمن تجييش العواطف وتحريك المشاعر لدى أتباع الجماعة المطيعين معطلي التفكير ومعتقلي الآيديولوجيا، بحيث يجمع هذا الخطاب عنصر الكربلائية وعنصر الأحلام؛ في الأول تعيد الجماعة إنتاج خبرتها القديمة في تطريز روايات الظلم والاضطهاد والتعذيب الذي تعرضت له الجماعة زمن الناصرية، حيث المبالغات المضحكة وغير المعقولة، وفي الثاني يجري استحضار غالب الرموز الدينية وصولا لشخص الرسول الكريم لإضفاء قدسية دينية على صراع سياسي.

يتقن الإخوان المسلمون نشر الأجواء الكربلائية التراجيدية التي يستدرون بها عواطف أتباعهم المخلصين، وهم قد فعلوا هذا مع حسن البنا ومع سيد قطب ومع كثير من رموزهم من قبل، وهم حين يصنعون هذا مع شخصية مثل الرئيس السابق محمد مرسي إنما ينبئون عن مدى تواضع وتراجع وانحدار معايير الجودة لدى قياداتهم التي يسعون لترميزها، فمرسي بقدراته المتواضعة وشخصيته الضعيفة والمهزوزة لا يمكن أن يكون مثل حسن البنا أو سيد قطب، فضلا عن أن يصل لمرتبة الحسين التي يريدون إيصاله لها.

حاول «الإخوان» في السلطة نزع مصر من عمقها العربي وتحالفها الاستراتيجي مع دول الخليج العربي ليرموها في المحور الإيراني المعادي، وهو أمر أثبتت الأحداث أن مصر بشعبها وجيشها وأزهرها وقضائها وإعلامها غير مستعدة له، بل هي في موقف الرفض الكامل له، ومن هنا يمكن قراءة الدعم القوي والسريع من السعودية والإمارات والكويت بالمليارات لدعم عودة مصر لعمقها العربي والخليجي.

خليجيا، كان من فوائد إسقاط نظام الإخوان المسلمين في مصر أن بلغت الصدمة بإخوان الخليج أقصاها، فخرجوا عن طورهم وتركوا كهوف الحذر وأغطية التخفي وخرجوا للعلن بتصريحات ومواقف وعبارات تبين حجم ولائهم المطلق للجماعة الأم بمصر، وعداءهم المستحكم لسياسات دولهم ومصالح أوطانهم.

نظرا لحجم الولاء وتطرف الخطاب وحماسة الاندفاع يمكن تسمية العناصر الموالية لجماعة الإخوان المسلمين في دول الخليج بـ«ميليشيا الإخوان»، وهم قد تحركوا بكامل طاقتهم لدعم الجماعة الأم عبر خطابات جماعية تجمع الإخواني العتيد مع عناصر متفرقة من جماعات الإسلام السياسي، وبعض المحسوبين على الثقافة من الذين يفتشون عن مكان تحت شمس الشهرة بأي سبيل، فشقوا الجيوب ولطموا الخدود - كما هو التعبير التراثي - وأبانوا عن مكنون الضمائر ودفين الرغبات، وهي جرأة غير مسبوقة تدل على أن ضخامة الألم قد أفقدتهم توازنهم، فصرحوا بعد التكنية، وأبانوا بعد التمويه.

إن وعي دول الخليج بخطورة جماعة الإخوان المسلمين مر بمراحل؛ فقد دعموا هذه الجماعة تاريخيا وكانت كل مرة تنقلب عليهم. ولدى مراجعة تاريخهم يتبين أن الإخوان المسلمين انقلبوا على السعودية والملك عبد العزيز بعد إحباط ثورتهم في اليمن 1948، ونسوا كل ما قدمه لهم من دعم من قبل، ونسوا وساطة الملك سعود لهم بعد ضغط نظام عبد الناصر عليهم، وتنكروا من بعد لموقف الملك فيصل ودول الخليج كلها معهم حال هوانهم، ثم إنهم لم يدعوا موقفا معاديا لدول الخليج إلا اتخذوه؛ من موقفهم في تأييد ثورة الخميني إلى تأييد احتلال صدام حسين للكويت، وهم في السلطة اتخذوا المسار نفسه، ومارسوا العداء ذاته، فهم في المحنة والمنحة على حد سواء؛ اختاروا وبوعي أن يعادوا دول الخليج، فماذا كانوا ينتظرون يا ترى؟!

وفي تواصل لهذا الموقف يمكن قراءة كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده، حيث رفضت الكلمة أي تلاعب بالدين الإسلامي عبر تحزبات الإسلام السياسي وخطابه وآيديولوجيته، في محاولة لخطف الدين وتوظيفه في خدمة جماعة بعينها أو حزب بذاته، حيث جاء في الكلمة: «إن المملكة العربية السعودية التي شرفها الله بخدمة الحرمين الشريفين وأكرمها بذلك لن تسمح أبدا بأن يستغل الدين لباسا يتوارى خلفه المتطرفون والعابثون والطامحون لمصالحهم الخاصة، متنطعين ومغالين ومسيئين لصورة الإسلام العظيمة بممارساتهم المكشوفة وتأويلاتهم المرفوضة»، ثم تتجه الكلمة بصراحة إلى أتباع الجماعة المخلصين في السعودية بالقول: «والمملكة بذلك تعلن بأنها لن تقبل إطلاقا وفي أي حال من الأحوال أن يخرج أحد في بلادنا ممتطيا أو منتميا لأحزاب ما أنزل الله بها من سلطان، لا تقود إلا للنزاع والفشل».

ختاما، هل يستطيع إخوان الخليج الرد على الإخواني يوسف ندا المتسق مع خطاب جماعته وتاريخها المعادي لدول الخليج، مع أنه يُعد من الحمائم، حين يقول إن «انفراد بعض العائلات بحكم الدول المسلمة كالسعودية والإمارات.. هو خيانة للإسلام والمسلمين»؟! أم أن الجماعة مقدمة على الوطن؟!