مفقودون في الحرب.. لكن ليس للأبد

TT

التزام أميركا بألا تتخلى عن جنودها في المعارك لا يضاهيه التزام آخر في العالم. فقليلة هي الدول التي تبذل جهودا منظمة للعثور على رفات جنودها الذين فقدوا منذ فترة طويلة، وعلى ساحة معركة مثل بليليو، وهي جزيرة في المحيط الهادي، حيث لا تزال الهياكل العظمية للجنود اليابانيين جاثمة في مداخل الكهوف ترتدي الخوذات والأحذية العسكرية نصف مدفونة في سبعة عقود من الطين. بيد أنه منذ الحرب العالمية الأولى، عمل جيشنا على تحديد موقع كل جندي قتل وإعادة رفاته إلى عائلته في الوطن.

يقود هذه الجهود اللجنة الاستشارية العامة المشتركة، قيادة إحصاء المفقودين في المعارك وسجناء الحرب. وقد يقضي أفراد فريق ميداني تابع للجنة الاستشارية ما بين خمسة أشهر إلى عشرة أشهر خارج البلاد في الغابات المظلمة الرطبة في جنوب شرقي آسيا رابضين في الموسم المطير ينقبون في جبال من الوحل من أجل عظمة صغيرة. ونظرا لأنه لا يزال هناك نحو 83 ألف جندي على قوائم المفقودين في الحرب، فقدوا في الحرب العالمية الثانية وكوريا وفيتنام، فالتحدي كبير.

علمنا هذا الأسبوع عن تقرير داخلي حاول قادة اللجنة الاستشارية العامة المشتركة وضعه في طي النسيان، يقول إن عمل اللجنة لا يرقى إلى المهمة. وبحسب الرواية المذكورة في تقرير وكالة «أسوشييتد برس»، وجدت المراجعة أن اللجنة أنفقت وقتا طويلا للغاية في كل تحقيق من دون نتائج مؤثرة، وتواجه عوائق بيروقراطية زادت من ضعف هذه النتائج. ووصفت المهمات بـ«العمل الذي لا طائل منه»، و«سياحة عسكرية»، وأن الوحدة يتهددها خطر الانتقال من «الخلل الوظيفي إلى الإخفاق الكامل».

ورغم صحة بعض الشكاوى المحددة في التقرير، فإن النتائج كانت خاطئة بشكل كبير.

وقد قضيت السنوات الخمس الماضية أؤلف كتابا عن عمل اللجنة الاستشارية، وذهبت إلى أقاصي العالم مع فرق اللجنة الخاصة باستعادة الرفات، وقد شعرت خلال الرحلة بالإحباط مرات عدة نتيجة البيروقراطية المعيقة، التي لا يستطيع معها قادة اللجنة العمل بشكل واسع بسبب مجموعة من القواعد التي تبالغ في الحذر بصورة تؤدي إلى تباطؤ العمل.

وقد شاهدت أيضا التأثير الذي يمكن أن تحدثه البيروقراطية على عائلات المفقودين. فقد يتطلب الأمر سنوات من القادة لكشف ما عثر عليه زملاؤهم الميدانيون في أحد المواقع، حتى إن أهم الاكتشافات عادة ما تظل سرا حتى يجري جمع كل الأدلة، وتجري معالجتها وتحليلها، بما في ذلك عينات الحمض النووي. وفي بعض الأحيان، عندما يجري التأكد والتعرف على الرفات لا يكون الوالدان والأقارب الذين انتظروا بصبر لسماع أنباء عن مفقودهم على قيد الحياة لتلقي الخبر.

رغم ذلك، فإنه سيكون من الخطأ وقف عمل اللجنة الاستشارية ووصفه بالإخفاق. ففي مقابل كل حالة تتحرك فيها الوحدة ببطء، هناك الكثير من الحالات التي تمكنت فيها الفرق الميدانية من تقديم إجابات لعائلة ولولاها لضاعت إلى الأبد.

تعرف العائلات التي فقدت أحد أبنائها في الحرب مدى قيمة هذا العمل. ومن دون تفسير واضح لما حدث لأبنائهم وآبائهم وأزواجهم وإخوتهم، يعاني هؤلاء نوعا من الحزن المعروف بـ«الخسارة المبهمة».

ولم يتابع الآثار النفسية التي لحقت بعائلات المفقودين في الحرب وانتقال معاناتهم من جيل إلى جيل سوى عدد قليل من الخبراء. ففي كثير من الحالات، تتعلق هذه العائلات بأمل أن يكون ابنها نجا نوعا ما، فربما يكون قد فقد أو أسر أو يعاني فقدان الذاكرة، رغم أن هذه الأقدار ربما تكون أسوأ من الموت. وقد التقيت شبابا ونساء يفيضون بالمشاعر لخسارة جدهم الذي لم يروه على الإطلاق لأن اختفاءه يطارد عائلتهم منذ عقود.

بالنسبة لعائلات المفقودين في الحرب، لا يمكن أن يكون هناك إغلاق حقيقي للقضية من دون بحث مقبول عن الإجابات. وإجراء هذا البحث وتقديم هذه الإجابات يقع على عاتق اللجنة الاستشارية العامة المشتركة وحدها. ورغم أن طبيعة الوحدة عسكرية، فإن مهمتها إنسانية، لا علاقة لها بالحرب أكثر من جمع البقايا المادية.

ويركز كتابي على القاذفة «بي 24» التي اختفت في ظروف غامضة في الحرب العالمية الثانية. فلم يعثر بعد على رفات ثمانية من بين طاقم الطائرة الأحد عشر. وفي عام 2010 أقيمت جنازة لرفات الطيارين الثلاثة الذين عثر عليهم في مقبرة آرلينغتون الوطنية، بيد أن عائلات المفقودين جاءوا لتقدم الاحترام، لا للرجال الذين دفنوا فقط، بل للمتطوعين الذين وجدوهم وفريق اللجنة الذي أعادهم إلى الديار.

من السهل أن نتذمر عندما تأتي الإجابات بطيئة، لكن الأكثر صعوبة أن ندرك كم كنا محظوظين أن نحصل على الإجابات.

ذات مرة جلست في غرفة معيشة رجل كانت اللجنة قد اكتشفت رفات والده حديثا، لكن قادة الوحدة لم يكونوا قد أخبروه بعد، لا ينوون لعدة أشهر، لكني لم أشعر بالتزام يحول دون أن أطلعه على السر. وعندما شرحت له أن مجموعة منفصلة من العظام جرى اكتشافها مع بطاقة التعريف الخاصة به، انهمرت الدموع على وجهه وابتسم بارتياح. كانت الأنباء قد قضت على أي أمل في أن والده ربما يكون حيا، لكنها في الوقت ذاته حررته من واجب مؤلم للحفاظ على هذا الأمل. وعندما استعاد رباطة جأشه سألني: «من الذي أسعدني؟». كانت الإجابة: «اللجنة الاستشارية العامة المشتركة».

* كاتب مشارك في مجلة «نيويورك تايمز»، ومؤلف كتاب «اختفى: بحث ستين عاما عن المقاتلين المفقودين في الحرب العالمية الثانية»

* خدمة «نيويورك تايمز»