مصر: انقلاب أم ثورة ثانية؟

TT

ما زلنا نجد صعوبات كبيرة في فهم أو تفسير ما يحدث في مصر في الوقت الراهن. وفي مقدمة كتابه الرائع «وسطاء الخداع»، يستشهد الكاتب رشيد الخالدي بمقولة لجورج أورويل تنطبق تماما على ما يحدث في مصر الآن، حيث يقول: «فساد اللغة يجعل من السهل أن يكون لدينا أفكار حمقاء. ولو تمكن الفكر من إفساد اللغة، فيمكن للغة أيضا أن تفسد الفكر. ويمكن للاستخدام السيئ أن ينتشر من خلال التقاليد، وحتى بين الأشخاص الذين لديهم معرفة أفضل».

وفي الوقت الراهن، تتردد ثلاث كلمات كثيرا في مصر: انقلاب وثورة وشرعية. ويقوم كل شخص بترديد هذه المصطلحات ويفهمها حسب وجهة نظره ومثله العليا ومصلحته الشخصية. وكما يقول القرآن الكريم: «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»، فعلى سبيل المثال، يستخدم الإخوان المسلمون وأنصارهم تعبير «انقلاب عسكري» ويؤمنون بأن إطاحة الرئيس المعزول محمد مرسي من سدة الحكم تمت في إطار ثورة مضادة جرى الإعداد لها من قبل الجيش والقوات الموالية لمبارك. وفي المقابل، يرى الجيش أنه قد قام بهذه الخطوة لتلبية مطالب الشعب المصري الذي نزل للشارع بأعداد غفيرة في الثلاثين من يونيو (حزيران). والشيء المثير للاهتمام أن الرئيس مرسي قد امتدح الجيش في الخامس والعشرين من يونيو عام 2012 بكلمات حماسية وقوية في أول خطاب له كأول رئيس مدني منتخب في مصر، حيث قال: «كل التحية لشعب مصر العظيم ولجيش مصر خير أجناد الأرض، وللقوات المسلحة وكل أبنائها أينما وجدوا.. تحية خالصة من قلبي لهم، وحب لا يعلمه في قلبي إلا الله سبحانه وتعالى.. فأنا أحب هؤلاء وأقدر دورهم وأحرص على تقويتهم وعلى الحفاظ عليهم وعلى المؤسسة العريقة التي نحبها ونقدرها جميعا».

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما الخطأ الذي حدث بعد عام واحد فقط؟ هل غير مرسي رأيه وشخصيته، أم أن الجيش هو الذي تغير؟ في واقع الأمر، هذا التغيير يمثل الفرق بين الانقلاب العسكري والثورة، كما يمثل المعنى المفقود للشرعية. واستمر أول خطاب لمرسي بعد توليه الحكم لمدة 25 دقيقة قام خلالها بترديد كلمتين هما، تحية والحب، ولم يستخدم كلمة «شرعية» ولو لمرة واحدة، على عكس خطابه الأخير الذي كرر خلاله كلمة «شرعية» أكثر من 50 مرة، ولم يستخدم كلمتي تحية وحب ولا مرة واحدة!

وبالتالي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما الفجوة التي تفصل بين الحب والشرعية؟ ولماذا انتقل مرسي وإدارته من الحب إلى الشرعية، ولماذا لم يستخدم كلمة «شرعية» ولو مرة واحدة في خطابه الأول، ثم يعود ليستخدمها 50 مرة في خطابه الأخير؟ هل هذه مشكلة لغة أم مشكلة أفكار؟ أعتقد أن هذه مشكلة أفعال لا أقوال.

أعتقد أن مرسي قد فشل فشلا ذريعا في تعزيز تماسك مصر ووحدتها، على عكس ما وعد به في خطابه الأول حين قال: «أتوجه إليكم جميعا في هذا اليوم المشهود الذي أصبحت فيه بعد فضل الله بإرادتكم رئيسا لكل المصريين وسأكون لكل المصريين على مسافة واحدة».

لقد أثبتت المظاهرات الحاشدة في ميدان التحرير أن هناك فجوة كبيرة بين الرئيس وملايين المتظاهرين. لقد وقع مرسي في خطأ استراتيجي عندما رفض اقتراح وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، واعتمد على الشرعية وأنه هو الرئيس المنتخب. وللأسف، فقد مرسي إحساسه بالمنطق وفشل في إدراك أن الوضع قد تغير تماما. يفترض أن يكون السياسي المحنك قادرا على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، فعلى سبيل المثال اتخذ أمير قطر السابق الشيخ حمد القرار الصحيح في الوقت الصحيح. وعلى النقيض من ذلك، عندما واجه مرسي مظاهرات حاشدة ضد إدارته وضده هو شخصيا، كان يتعين عليه إعادة النظر في سياسته حتى يلبي مطالب شعبه.

في الواقع، يمكن اعتبار ما حدث في مصر مزيجا بين الانقلاب العسكري والثورة، ويمكننا أن نطلق عليه اسم «انقلاب ثورة»، ويمكننا أن نحدد له خمس صفات رئيسة:

1: تجمع ملايين المصريين في ميدان التحرير للتظاهر ضد مرسي.

2: الفريق عبد الفتاح السيسي جنرال رائع وأمين عُين من قبل مرسي.

3: إطاحة مرسي جرت بدعم من أحزاب وشخصيات دينية وسياسية رفيعة، بما في ذلك شيخ الأزهر أحمد الطيب، وبابا الكنيسة الأرثوذكسية المصرية الأنبا تواضروس، ومحمد البرادعي.

4: يبدو أن البلدان العربية والإسلامية مرحبة بالحكومة الجديدة.

5: تلقت الحكومة الجديدة دعما من الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، التي لم تصف ما حدث بأنه انقلاب عسكري.

ومع ذلك، واجه الجانبان عواقب غير مقصودة، وكانت الأحداث الدامية التي وقعت أمام الحرس الجمهوري يوم الاثنين الماضي بمثابة فصل جديد في المشهد السياسي المصري، وكما يقول المتنبي:

«ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن»

ومع ذلك، لا يمكنني تأكيد أن قتل 52 متظاهرا من أنصار مرسي أمام الحرس الجمهوري كان حتميا، وهل كان ذلك هو الخيار الوحيد أمام الحرس الجمهوري؟

والآن، ينقسم الشعب المصري إلى قسمين لكل منهما توجه مختلف تماما، أحدهما في ميدان التحرير والآخر في ميدان رابعة العدوية. ويجب على كل فريق من هذين الفريقين أن يعلم أنه لا يوجد أمامه خيار آخر سوى قبول الآخر والتعايش معه، كما يجب على كل فصيل أن يضع أولوية لمصلحة مصر ولمستقبل الأجيال الجديدة والإيمان بالتعددية، وإدراك أن عدم قبول الآخر، سواء كان ذلك من قبل الإسلاميين أو العلمانيين، سوف يخلق صعوبات كثيرة في مصر. وخلاصة القول، أعتقد أن ما يحدث في سوريا يعد درسا أكثر من كاف ليتعلم منه بقية العالم الإسلامي.