حدث معقد!

TT

ليس ما وقع في مصر بالحدث البسيط. لو قلنا إنه انقلاب غير شرعي، لوجب أن نضيف: إنه وقع بإرادة شعب خرجت ملايينه إلى الشوارع والميادين مطالبة برحيل الرئيس محمد مرسي. ولو قلنا إنه انقلاب شرعي، لكان علينا أن نضيف: إنه وقع ضد رئيس منتخب، رجح كفته على كفة الفريق أحمد شفيق: مرشح الفلول، من خرجوا يطالبونه بالرحيل، لاعتقادهم أن من حقهم سحب شرعيته، ما داموا هم من منحه إياها، ولأنه ما كان لينجح دون أصواتهم. ولو افترضنا أن الجيش انتهك الدستور، الذي يدين الانقلابات العسكرية، لكان من واجبنا أن نقول: لكن مرسي كان يتبع سياسات شقت الشعب ومثلت خطرا حقيقيا على هوية وطابع وربما وجود الدولة، فهل كان من الوطنية والشرعية، دستورية كانت أم شعبية، أن يقف الجيش مكتوف اليدين حياله، حتى إن لم يطالبه الشعب بالتدخل؟

أعتقد أننا نقف هنا أمام خطأين ارتكب مرسي أولهما والجيش ثانيهما، وأن خطأ مرسي كان أكبر بكثير من خطأ الجيش.

أما خطأ مرسي فيكمن في حقيقة أنه حاول قلب ثورة قام بها شعب مصر ضد الاستبداد والفساد والتسلط إلى فعل حزبي مستبد وفاسد ومتسلط. لم يكن حزب الرئيس مرسي هو من قام بالثورة، أو أول من نزل إلى الشوارع مطالبا بتنحي حسني مبارك وإسقاط نظامه. ولم يقدم القسط الأكبر من تضحياتها، ولم يصغ شعاراتها أو يتزعم جماهيرها، بل انضم إليها بعد أسبوع كامل من انفجارها، وحصر مواقفه بالسياسة التي أودت بمرسي: تحويلها إلى ثورة إخوانية، وبالتالي سرقتها وانتزاعها من أصحابها الحقيقيين: جماهير الشعب المصري غير الحزبية، الرافضة للاستبداد والمطالبة بالحرية. رفض مرسي هذه الحقيقة الحاسمة ورسم سياساته ضد منطقها واتجاهها، وقصر جهده على استكمال خط سرقة الثورة وأخونتها، ورأت قطاعات كبيرة من المصريين فيه خيانة لثورتهم ولهم شخصيا، فلا عجب أن بلغت النقمة عليه حدا لم ينجح حسني مبارك في الحصول على ما يماثله، رغم سنوات حكمه الطويلة المليئة بالفساد. وزاد الطين بلة أن أخونة الثورة بوسائل الرئاسة وموقعها كانت تعني تغيير طبيعة الدولة، وحتمية استفزاز رد فعل المؤسسات المكلفة بحراستها والدفاع عنها، وعلى رأسها مؤسستا الجيش والأمن، اللتان وجدتا نفسيهما محمولتين على موجة غضب شعبي لا سابقة لها جعلتهما تتصرفان تحت غطاء شرعية شعبية كاسحة: بدعم من عشرات ملايين المصريين. ذلك جعل مرسي يبدو خارجا على الدولة والشعب في آن معا، ورجل حزبية ضيقة وخطيرة تهدد وجود الأولى ووحدة الثاني.

أما خطأ الجيش، فيكمن في موقفه من الديمقراطية: من إمكانية تسوية سياسية تكبح رهان الرئيس وتحول في الوقت نفسه دون إبعاده بالقوة، أي بالانقلاب، عن منصبه، وفي تجاهل حقيقة تاريخية قاهرة هي أن السيرورة الديمقراطية شديدة التعرج، وتتسم في بداياتها بموجات متناقضة من الخيارات والتطورات، تضمر فيما تضمره إمكانية قيام سلطات غير ديمقراطية تتخذ تدابير وإجراءات استبدادية بهذا القدر أو ذاك، دون أن تلغي مع ذلك المسار الديمقراطي كخيار تاريخي. مشكلة الجيش أنه تصرف وكأن الذهاب إلى النظام الديمقراطي يجب أن يتم بخط مستقيم لا تجوز أن تحيد الرئاسة عنه، بينما يعلمنا التاريخ أن هذا لم يقع في أي تجربة ديمقراطية عرفتها البشرية في أي وقت. ومن تساوره الشكوك في صحة ما أقول، فليتابع سيرة أعظم ثورة ديمقراطية في التاريخ الحديث: الثورة الفرنسية. يتفرع عن هذا الخطأ موقف قد تترتب عليه مخاطر عظيمة بالنسبة إلى مصر.

من الضروري لإنقاذ مصر وإخراجها من مأزقها توفر أمرين: التزام الأحزاب والجهات السياسية بطابع الدولة المدني: العام والمجرد والشامل، وبحقيقة أنها يجب أن تكون لجميع مواطناتها ومواطنيها. والتزام الجيش عقدا وطنيا يمنع تحول جيشها إلى جهة سياسية تخبط ذات اليمين مرة وذات الشمال مرة أخرى، فتدور مصر داخل حلقة مفرغة فيها عدم استقرارها.

حمى الله أرض الكنانة، أم الدنيا!!