كيف يصبح «الإخوان» جزءا من الحل!

TT

«الإخوان» في مصر جزء من المشكلة ولكن ليس كل المشكلة، فمصر فشلت مرتين على الأقل لولوج العصر الحديث بالمعنى الشامل، المرة الأولى عندما تزامنت محاولة النهضة أيام محمد علي الكبير مع النهضة اليابانية، تقدمت اليابان، وبقيت مصر على حالها، ثم جاءت الفرصة الثانية التي تزامنت مع عصر عبد الناصر ومرحلة الإقلاع في كوريا الجنوبية، سارت الأخيرة في طريق التطور وانتكست مصر. مصر اليوم على أبواب المرحلة الجديدة من محاولة النهوض، إما أن توضع على مسار التقدم أو تعيد كرة الانكسار مرة ثالثة. لم تكن مسيرة اليابان من دون منغصات، وشهدت كوريا الجنوبية عددا من الانقلابات العسكرية وحكم التسلط المطلق، ولكن استطاع الشعبان أن يتقدما في مضمار الصناعة والحكم الرشيد معا إلى أن وصلا إلى ما نشاهد ونعرف.

لم تتح فرصة حقيقية للتطور في مصر نتيجة فكرة سياسية وثقافية راسخة هي فكرة (الاستحواذ) التي تؤدي إلى التهميش الكامل لمكون أو أكثر من مكونات المجتمع، ما ينتج عنه أن بعض الفرق السياسية ترى أنها تملك (الحقيقة المطلقة) ذلك أدى إلى فقدان الارتكاز على مؤسسات من أجل بناء المجتمع والاستعاضة عنها بالشخصانية المطلقة، سواء في مجموعة من الأشخاص أو قلة من جماعة!

الأحداث الحالية تفرض علينا قراءة مختلفة لا يصح المقارنة فيها بأحداث سابقة، فلأول مرة تنتقل القوة السياسية من العمودية إلى الأفقية، أي سطوة وقوة الجماهير، لا الانقلابات العسكرية ولا التزوير الانتخابي. ليس هينا أن يطاح بنظامين (مبارك ومرسي) من خلال تجمعات جماهيرية حاشدة في الميادين، مهما بلغت من المكابرة في إنكار ذلك، تبقى حقيقة على الأرض أن التغيير جماهيري، كما لأول مرة يصبح اللاعبون السياسيون في مصر مكشوفين فوق السطح ومطلقي العنان للعمل الشعبي، كان «الإخوان» محظورين من العمل السياسي، فأصبحوا على السطح، كذلك القوى الأخرى السلفية والمدنية، الجميع يتنافس على القاعدة الواسعة من الجماهير، ذلك متغير جديد في العمل السياسي المصري في وسط إطلاق سيولة في الإعلام التقليدي والجديد.

أصبح هناك ما يمكن أن يسمى (الاستطاعة الجديدة) أي الارتكان على الشارع، ليس في مصر ولكن في المنطقة العربية من اليمن إلى ليبيا ومن البحرين إلى مراكش. الاستطاعة الجديدة تحتاج إلى تفكير جديد في استنباط الحلول، فقد أطاحت بما كان يعرف بالديمقراطية التمثيلية إلى صيحة الجماهير وهديرها، وتهدد هذه الموجة بلادا قريبة منها تركيا وأيضا إيران، إن لم يكن اليوم ففي القريب المنظور. نحن في الحقيقة بصدد ثقافة سياسية جديدة مفادها ما من إدارة حكومية قادرة على البقاء بقوة الإكراه، ذلك زمن مضى.

إن بقينا في مصر فإن أول معضلة تواجه العمل السياسي المصري في المرحلة الانتقالية والقادمة - وهي قصيرة الأمد الزمني - وضع خط واضح وصريح بين الحزب أو الأحزاب السياسية والعمل الدعوي، هذا الخلط المركب الذي شاب العمل السياسي المصري، أفاض في السنوات القليلة الماضية ثنائية (المرشد) و(الرئيس) يحتاج إلى حسم واضح، وهي ثنائية تخلط بين (الجماعة) وبين الحزب، ولا يوجد في عالمنا الحاضر حكم برأسين! التداخل المخل هو الذي أعجز مصر حتى اليوم عن الدخول في العصر، كان تداخلا بين العسكر والسياسة فنتج عنه حكم مركزي يحظى فيه أهل الثقة بالصدارة قبل أهل الخبرة، نتج عنه كوارث اقتصادية وسياسية وحكومات إخضاعية.

إذن أول ما يتوجب النظر فيه في الدستور المزمع تعديله، التحول كليا إلى الدولة المدنية، وترك ما لله لله، وما للشعب لرأي الشعب، من دون السماح بخلط السماوي بالأرضي، إن لم تستطع النخبة المصرية حسم هذا الأمر سوف تظل من جديد تفوت الفرص ويرزح المجتمع تحت عوامل التخلف الاقتصادي والسياسي، وإن حسمته سوف يكون تقدما ليس للشعب المصري، بل والشعوب العربية فرصة تاريخية للولوج إلى العصر الحديث، حيث إن الرقعة العربية شديدة التفاعل وتتأثر بما يجري حولها من أحداث، إلا أن المعركة ليست سهلة بل تحوطها المخاطر. وضع دستور حديث ليس اكتشافا فتجارب غربية وشرقية كثيرة وضعت لها مثل تلك الدساتير وتطورت مع الزمن، المهم القواعد الثابتة للعبة السياسية، القائمة على فكرة الدولة المستقلة والمساواة في المواطنة والفرص والمشاركة في إدارة الدولة.

من تجارب أخرى ليس من المستبعد أن تدخل التجربة المصرية في نفقين الأول، هو الزمن الطويل في التوتر، فقد يمتد الصراع بين المختلفين، الذي وقوده الحشد الجماهيري، لفترة طويلة مما ينهك الاقتصاد المصري ويزيد من حدة الفقر والبطالة والجريمة، والثاني، العودة إلى ديكتاتورية جديدة بشعارات مختلفة تلبس لبوس الوطنية، أو الدين. النفقان ممكنان، من هنا تأتي حصافة الممسكين بمقدرات المرحلة الانتقالية القائمة وقدرتهم على تجاوز الدخول في أحد النفقين السابقين، كما يعتمد على حصافة حزب العدالة ولن أقول «الإخوان» عن الكف عن البكاء على اللبن المسكوب والتشارك في بناء المستقبل، حيث إن عقلاءهم يعرفون ألا مكان لحكم العسكر، كما لا مكان للمشاحنة العقيمة والأخيرة تفقدهم جمهورا هو بيضة القبان في العصر الذي نعيش.

هناك بعض المشتركات بين «الإخوان» والمجتمع المدني أولها الاتجاه إلى بناء اقتصاد رأسمالي، ولكن هذا له شروط بينة، فهو ليس رأسمالية المحاسيب وليس الرأسمالية القرابية، إنه تنظيم حديث تحوطه قوانين واضحة تكفل التنافس من جهة، وتخفض قيود البيروقراطية من جهة أخرى، كما يشترك المجتمع المدني مع «الإخوان» على توليد قدر معقول من الرضا الاجتماعي عن طريق تخفيض نسبة الفقر والبطالة، وتمكين جيل جديد من الحياة الكريمة. الاختلاف في مكانين الأول، البعد الاجتماعي الذي تصر الجماعة على تشكيل مجتمع بنوع معين من الأخلاق - وهي نسبية كما نعرف - له علاقة بعالم مثالي منفصل عن الواقع، يجري تصنيم الأفكار فيها، والثاني، طموحات لا يحتملها العصر مثل إقامة الخلافة التي هي أقرب لدى العقلاء إلى النكتة من الحقيقة وللبسطاء أمل كاذب.

بدلا من هذا الصراع العبثي في مصر الذي قد يطول ويزهق أرواحا بريئة، لو توافقت النخب على تحويل الساحة من احتراب في الشوارع إلى ساحة احتراب بالرأي والرأي الآخر، على قاعدة مجتمع مدني، تشكل فيه الأغلبية – أيا كانت الحكم – وتشكل الأقلية قوة اعتراض، يمكن أن تقدم مصر إضافة مختلفة وعميقة لصيرورة العمل السياسي العربي. من هنا فإن حزب الحرية والعدالة، حتى يساعد في تخفيف قبضة الجيش، عليه ألا يتشبث بالأشخاص، بل يشكل معارضة سلمية في التكوين الجديد، وإن استطاع التماس بقوى الشعب الذي لا مناص لغضبها إن تفاقم عجز السلطة، ويستطيع وقتها أن يكسب الشارع بمرئيات محدثة. «الإخوان» ومناصروهم اليوم في مصر جزء من المشكلة فهل يتجهون إلى أن يكونوا جزءا من الحل؟ عن طريق النظر إلى أخطائهم وتصحيحها من خلال خطوتين، الرضا بفك الارتباط بين الحزب السياسي والجماعة الدعوية، والثاني السعي لإقامة دولة المؤسسات العصرية، فهل يفعلون!

آخر الكلام

الدكتور الببلاوي صديق لكثير من الكويتيين منهم طلابه في جامعة الكويت وأصدقاء كثر له، هو يعرف أن مشكلات مصر كثيرة وثقيلة، ونظريته الاقتصادية أن أي دولة لا يمكن أن تعيش على الإعانات، فالمساعدات لا تغني عن الإصلاحات، والنهضة مرتبطة بربط الحزام والتحول إلى مجتمع منتج، وعليه أن يبحث عن الأولويات، ولا أكثر منها إلحاحا من وضع قواعد حديثة للاشتباك السياسي، وتأكيد تداولية السلطة.