الجمهور أو«العوام»

TT

من أسباب الحيرة التي تعتري الجميع تجاه كيفية السيطرة على مجريات الأمور والتحكم بها، هو سيلان المعلومات والأخبار كل دقيقة في الفضاء.

هواتف ذكية فيها تطبيقات متعددة، صور، ونصوص، ومقاطع فيديو، وعشرات وكالات الأنباء الحقيقية والوهمية، حسابات شخصية لأناس بعضهم معروف وأكثرهم منكور، ناهيك بعشرات الفضائيات، فيها مئات البرامج من حوارية وتقريرية وصحف، ومواقع إخبارية.

فوق هذا، «القروبات» الخاصة التي يكونها مجموعة أشخاص تربطهم صلة قرابة أو رابطة عمل أو آصرة صداقة، بعيدة عن الفضاء العام المتاح، يتم فيها تداول كل ما يخطر وما لا يخطر على بالك من شائعات ومعلومات وأخبار.

كل هذا السيل العرم موجه إلى سد واحد، هو سد عقلك. فهل يستطيع هذا السد أن يقاوم هذه التدفقات المتتابعة وأن يحصن دفاعات سده، ويتحكم بما يعبر السد من مياه؟

هل كل السدود متساوية في قوتها، وقدرتها على التحكم والتمييز في كمية المياه ونوعيتها؟

السد هو عقلي وعقلك وعقله وعقلها، لكن كيف الخلاص وكل هذه الجيوش من المعلومات والمعطيات مسلطة عليك لجذبك أنت وحدك؟!

إنه أكبر وأعقد امتحان تمر به البشرية منذ وجدت.

إنه معطى قد يستفيد منه من يريد توجيه هذه الطاقة الرهيبة والغامضة، المسماة بطاقة الجمهور أو الرأي العام، أو «العوام» كما هي تسميتهم التراثية المعتادة. لكنها استفادة مؤقتة وخطرة، فالجمهور أو العامة مثل الثور الجامح الذي يريد شخص ما ترويضه، ثم لا يلبث هذا الثور أن يطرحه أرضا وقد يقتله أو يجرحه.

سهل إثارة الجمهور وتوجيه عواطفهم تجاه أمر ما، لكن الصعب هو في تسكين هذه الثورة وتهدئة الجماهير، لأنه من دون هدوء لا عمل ولا دولة ولا مجتمع إنساني طبيعي أصلا.

قد تكيل المديح لهذا الجمهور، وتدبج في وعيه العظيم القصائد والشعارات، مادام هذا الهياج في صالحك، لكن في اللحظة التي «تركب» فيها على صهوة السلطة، تبادر فورا إلى كبح هذا الهياج وإعادة الهدوء، كما فعلته سلطة الإخوان في مصر سابقا، حينما وصلت، وكما يحاوله الجيش الآن.

العوام قوة رهيبة لكنها عمياء، وفي هجاء الجمهور والعامة قيل كثير منذ سقراط إلى بيكون ونيتشه في الغرب، ومنذ الغزالي وابن رشد في الشرق إلى وقتنا المعاصر. أحد رموز الزهد والفقه والحديث في بواكير العهد الإسلامي بالبصرة، وهو الحسن البصري كان يقول لو كان الناس كلهم عقلاء لخربت الدنيا! ويشرح هذا المعنى ناقل عبارته، وهو العلامة الثعالبي في كتابه عن (الأضداد)، بأنه لو انصرف الجميع إلى العلم والبحث، أي إلى الثقافة بلغتنا المعاصرة، لتعطلت مصالح الجميع.

لكن منافقي الجماهير، أو الجماهير نفسهم بالأحرى، يقولون: لا. وفي ظل هذه الـ«لا» نعيش عصر الفوضى.