يوم بيروت مؤنسة وخضراء

TT

كم أعجب عندما أسمع أن العرب لا يقرأون. كلما تمتعت بكتاب آخر أو كتابة أخرى، أقول في نفسي: لماذا لا تبحث هذه الأمة الحزينة عن سعادتها في الكتاب؟! حرم السوفيات شعوبهم من الغذاء الكافي ومن أبسط الحريات وحوَّلوا أكبر بلد في العالم إلى أكبر سجن في العالم، لكنهم أعطوهم جبالا من الكتب الجميلة يغرقون في وديانها.

معي كتاب لا أذكر إن كنت اشتريه للمرة الثانية أم اقرأه للمرة الثانية أم أكتب عنه للمرة الثانية. لكنني بالتأكيد سوف أظل أقرأه، باحثا فيه عن ماض لم يبق منه سوى الحنين إليه. عنوانه «بيروت في البال» للمخرج المسرحي وأستاذ المسرح في الجامعة اللبنانية محمد كريم. وأحب ألقابه إلي أنه صديقي، وأنني مثله تمتعت بالطفولة في بيروت، يوم أكثرها بساتين وبساطة وبهاء.

سبقني هو قليلا إلى تلك الملاعب الخالية من كل ترف: «بلبل» خشبي له خيط ويدور على نفسه، أو عصا نتخيلها فرسا ونعدو بها، أو – مرة في الأسبوع – كعكة بالسمسم والزعتر يمرُّ بها «عمك أبو العبد» حاملا «صدر الكعك» على رأسه، مناديا، ضاحكا، فرحا، ومن حوله أطفال فرحون. كان الفرح عاما، مجانيا وصادقا.

عاد محمد كريم إلى طفولته وطفولة بيروت وأخذ يعيد علينا ما نسيناه، وعلى الأجيال الجديدة ما لم تعرفه. لكنه فعل ذلك بالكثير من الجد والبحث كأي مؤرخ يكتب الماضي بنضارة وحداثة. ولا أعرف عند أي فصل أتوقف لأن بيروت الماضي فصل جميل واحد، ولأنها عطر واحد في كل حاراتها وأحيائها وطرقها وسماحها ونفسها الرضية.

يذكرنا محمد كريم «بصندوق الفرجة»، الرسوم المتحركة تلك الأيام، وهو «صالة عرض» يحملها صاحبها، فيتحلق حوله الأطفال، بقروش قليلة أو حتى برغيف خبز، ويجلس أمام عدساته ثلاثة، فيما هو يمرر امامهم صور عنترة والزير والظاهر بيبرس.

ويهدر صاحب الصندوق السحري وهو يروي كيف هجم عنترة على «العدى»، ثم يلين وهو يصف جمال عبلة ابنة عمه مالك: «شوف الحلوة عبلا - ليت عيونها ما تبلى - يا عيونها عيون الغزلان - وشفافيها رق الفنجان - وأسنانها لؤلؤ ومرجان».

إذ ينتهي «العرض» بتناول صاحب الصندوق من جيبه دمية سماها «أبو حشيشة» لها جرس يعلن الختام. لكن الأولاد لم يشبعوا بعد. أعِد لنا حكاية ابي زيد الهلالي. وكانت تلك أول «تعاونية» في الشرق: من لم يكن يملك قرشا أو رغيفا، كان الأطفال الآخرون يشاركونه نصف «الفرجة».