دفاعا عن تركيا وليس أردوغان

TT

ما سر هذه الحالة من الغضب الشامل الذي ألمّ بالحكم في تركيا على اختلاف درجات مؤسساته على ما جرى من تغيير أو «ثورة» - سمها ما شئت - في السياسة المصرية خرج على أثرها جماعة الإخوان المسلمين من السلطة. لا يمكن أن تؤخذ حجة «الانقلاب العسكري» على محمل الجد، فلم يمضِ وقت طويل على أي حال منذ شاركت القوات المسلحة المصرية في إزاحة الرئيس السابق حسني مبارك وصحبه من السلطة، ولا يزال منذ وقتها في السجن وليس قيد الإقامة الجبرية في واحد من القصور الرئاسية، كما هو الحال مع محمد مرسي. ساعتها، لم يكن الأمر انقلابا عسكريا، ولكنه كان تعبيرا عن إرادة الشعب الذي شارك 18 مليون مصري في التعبير عنها في ميادين أشهرها كان ميدان التحرير. وقتها صار أردوغان وصحبه مناصرين عن حق للشعب والجيش والإخوان المسلمين حينما صاروا جميعا يدا واحدة. لم يختلف الأمر كثيرا هذه المرة فيما عدا أن عدد المشاركين من الشعب المصري زاد على الـ20 مليونا وفق التقديرات المحافظة (الأقل محافظة تصل بها إلى 33 مليونا) التي ضمت ليس فقط المدن الكبرى، ولكن كل المحافظات المصرية حتى مستوى المدن والقرى. الإرادة الشعبية لم تختلف في الحالتين، ولكن الذي اختلف كان السيد أردوغان وجماعته في الحكم، على الرغم من أنه كان هناك الكثير الذي كان له أن يقلق السلطات التركية، حسب النموذج الذي وضعته لحكم جماعة لها مرجعية إسلامية في دولة ديمقراطية علمانية.

والعجيب أن أردوغان شخصيا اختبر عقم الحالة المصرية، وكان لصيقا بها حينما أتى إلى العاصمة المصرية، فجرى استقباله استقبال خلفاء بني عثمان، ولكنه بعد خطابه في جامعة القاهرة مقدما نفسه كزعيم مسلم في دولة علمانية يفخر بها، استمع إلى كثير من اللعنات. ولا بد أن أردوغان الذكي في أحوال كثيرة اشتم رائحة ليس الإخوان المسلمين في الجماعة الأم المصرية، وإنما «القطبية» بعد أن اختلطت بالجماعات السلفية المتشدد منها والمعتدل، والجهادية المقاتل فيها والإرهابي، وظهر منها كل ذلك في دستور لا يجعل قانونا يمر من دون موافقة جماعة من الفقهاء (أي ولاية الفقهاء بدلا من ولاية الفقيه)، وفقا لرأي أهل السنة والجماعة، أما من لم يذهب مذهبهم من المسلمين أو المسيحيين، فإنهم بالتأكيد خارج الجماعة الوطنية. لم يكن فيما رآه أردوغان أو استمع إليه شيء من الديمقراطية مع الإعلانات الدستورية الفاشية أو مع الحصار القائم للمحكمة الدستورية العليا، فضلا عن انعدام الكفاءة والقدرة على إدارة بلد بحجم مصر، مما يشير من قريب أو بعيد إلى النموذج التركي الذي روج له أردوغان باعتباره المنارة التي تنجذب إليها تجارب «الربيع العربي». وللحق، فإن النموذج كان مغريا، وفيه خلطة لا بأس بها من الاعتدال الديني، مع الممارسات الديمقراطية المعروفة والمغرية للاتحاد الأوروبي.

ولكن واقعة أردوغان مع مصر تكشف أمرا مهما، هو أن أردوغان لم يكن غاضبا لسقوط الإخوان المسلمين، أو ساخطا على «الانقلاب العسكري»، بقدر ما كان هائجا على حقيقة إمكانية خروج «الإخوان» من السلطة في يوم ما، وهو أمر أصيل في الممارسة الديمقراطية، حيث يمكن تبادل السلطة بين قوى سياسية مختلفة. لم يكن الهياج الأردوغاني راجعا لما جرى في ميدان التحرير في القاهرة، ولكن لما جرى قبلها بقليل في ميدان «تقسيم» في قلب إسطنبول، لأنه سجّل بداية الموجة الجديدة من الثورة في المنطقة بإمكانية الخروج على حكم الإخوان المسلمين، بعد أن جرى في الجولة الأولى الخروج على استبداد النخبة العسكرية المدنية ممثلة في زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح. هذه المرة، فإن الثورة المدنية الثقافية، سواء في إسطنبول أو القاهرة، كانت تسجل أن في الديمقراطية ما هو أكثر من صناديق الانتخاب من ناحية، وحتى ما هو أكثر من الكفاءة الاقتصادية من ناحية أخرى.

تلك هي القضية لدى أردوغان؛ أن «الإخوان» عندما يصلون إلى السلطة لا ينبغي أن يخرجوا منها أبدا، وهو أمر يمكن أن تكون له مبرراته في دولة ثيوقراطية، ولكن مثل ذلك في دولة علمانية وديمقراطية أيضا يصبح كفرا بيّنا. كان ذلك هو ما حدث في القاهرة على الرغم من أن النخبة المصرية التي أسست مصر الحديثة أصرت دائما على مدنية الدولة وليس علمانيتها، وكان العبث بهذه الدولة هو ما حرك ثورة 30 يونيو، وكان الخوف من هذه الثورة هو ما سبب قلقا بالغا لدى النخبة الحاكمة في إسطنبول، التي كانت تعلم تماما كل الخطايا التي ارتكبتها جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة.

ولكن هذا الموقف من حزب التنمية والعدالة التركي لا ينبغي له أن يكون المحدد للموقف من الدولة التركية، سواء من الجانب المصري أو العربي المتعاطف مع الثورة المصرية الجديدة. أولا لأن تركيا دولة مهمة في الشرق الأوسط تاريخيا وجغرافيا. وثانيا لأنها جزء من السياسات الإقليمية الجارية، سواء ما تعلق منها بالعراق أو سوريا أو حتى الصراع العربي - الإسرائيلي، أو العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة في المقدمة منه. وثالثا أن التجربة التركية حبلى بالمتغيرات الكثيرة التي بدأت بوصول جماعة تنتمي فكريا لأفكار الإخوان المسلمين، بعد إقامتها على قاعدة ديمقراطية وعلمانية، ولكن التجربة لن ترقى إلى مرتبة النضج إلا عندما يثبت إخوان تركيا أنهم يستطيعون الخروج من السلطة ديمقراطيا كما دخلوها. ولمن لا يعلم، فإن كثيرا من المفكرين لم يعتبروا الهند بلدا ديمقراطيا، إلا بعد أن خرج حزب المؤتمر الهندي من السلطة، حتى ولو دخلها بعد ذلك مرات كثيرة.

هنا لا تصبح القضية أردوغان، ولا الإخوان المسلمين في تركيا، وإنما تجربة الدولة التركية ذاتها وكيفية عبورها من استبداد العسكر إلى محاولة هيمنة «الإخوان»، ليس على السلطة السياسية أو مؤسسات الدولة، وإنما على ثقافتها وهويتها إلى أن تصبح دولة ديمقراطية بحق يمكن فيها للشعب التظاهر السلمي، ويمكن فيها للأمة أن تنتخب حزبا مختلفا. تجربة أردوغان مع مصر، وتجربته مؤخرا مع تركيا ذاتها، تثبتان أن له رأيا آخر يعطيه الفرصة شخصيا لكي يبقى في السلطة وقتا طويلا، أما جماعته وأهله وعشيرته فإنها تبقى في السلطة إلى الأبد. الأتراك مثل المصريين لن يقبلوا ذلك.