مراد هوفمان على خطى محمد أسد.. ربحا محمدا ولم يخسرا المسيح

TT

أوجه شبه عدة تجمع المستشرق الألماني المسلم د. مراد هوفمان بالمستشرق النمساوي المسلم محمد أسد؛ فهما تجايلا والتقيا مع فارق 30 عاما في العمر، وهما خرجا من بيئتين متقاربتين جغرافيا (هوفمان من ألمانيا وأسد من النمسا) وكلاهما ألف كتابا باسم «الطريق إلى مكة»، وكان كتاب أسد هو الأسبق والأشهر، وهما مستشرقان اعتنقا الإسلام بعد رحلة تأمّل حياتية، وتعمقا فيه بالمثابرة والاطلاع والبحث، ثم خدماه فكرا وتأليفا في كتب متقاربة العناوين، والاثنان مارسا الدبلوماسية، وقد غيرا اسميهما واختارا أسماء إسلامية، وكان من الواضح أن هوفمان تأثر بمنهج أسد وكتب عنه وكان مرجعا في سيرته، وعندما نعود إلى حياة الشخصيتين نلحظ أن محمد أسد قد التحق في مطلع حياته بوظيفة بسيطة (عامل هاتف) وأن مراد هوفمان عشق الفن والرقص في شبابه، وهكذا.

لكنهما افترقا على بعض أوجه اختلاف، فمحمد أسد - المولود في أسرة يهودية - كان عصامي النشأة، صحافيا ورحالة في مقتبل عمره، اعتمر الإيمان قلبه من خلال الترحال والتأمل في الفطرة، ولم يكمل دراسته العليا، بينما كان د. هوفمان - المولود في أسرة كاثوليكية - أرستقراطيا تقلد مناصب دبلوماسية عدة، ومر بالدراسات الأكاديمية من أوسع أبوابها، ومع ذلك بقي محمد أسد القدوة الأكثر تأثيرا في فكر هوفمان، وكان هوفمان هو من سماه «هدية أوروبا للإسلام» فنسجتُ على منوال ذلك لقبا معكوسا «هدية الإسلام لأوروبا» وضعته عنوانا لكتاب ألفته عن محمد أسد عام 2011م.

التقيت د. هوفمان في مكة المكرمة والرياض، ومرة ثالثة في الرياض عام 2011م على هامش ندوة عقدها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية عن محمد أسد، فكانت سيرة أسد محور كثير من الأحاديث الجانبية، وهو يفاخر بإجلاله وتقديره له، وكان يفهم العربية ولا يتقن الحديث بها، وقد جمعه مع الشيخ صالح الحصين بحضوري على هامش الندوة نقاش ممتع عن مقاصد الإسلام من تحريم الربا، وهو موضوع يتبناه الشيخ الحصين بقوة.

ولد هوفمان في ألمانيا عام 1931م، وحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة هارفارد، ثم عمل رئيسا لقسم حلف شمال الأطلسي بوزارة الخارجية الألمانية، ثم سفيرا لبلاده لدى الجزائر (1987م) فالمغرب (1990م) ولعلها الفترة التي التقى فيها بمحمد أسد حيث عاش الأخير فترة من حياته.

ثم اعتزل العمل السياسي بعد ذلك، متفرغا للندوات التي تعقد حول الإسلام في الشرق والغرب، ومتجها نحو التأليف في الفكر الإسلامي، حيث أصدر خلال عشرة أعوام - بين عامي 1993 و2002م - كتبه الخمسة الأشهر: «يوميات ألماني مسلم» و«الطريق إلى مكة» و«الإسلام كبديل» و«الإسلام في الألفية الثالثة» و«خواء الذات والأدمغة المستعمرة».

اهتدى هوفمان إلى الإسلام من خلال وضع أسئلة فلسفية عن الخَلْق والوجود، أدرك عند الإجابة عنها أنه مسلم، وهو أمر يذكّر بما توصل إليه محمد أسد عندما تحدث إلى أحد الحاخامات في القدس عن أفكار مماثلة ليكتشف أنه لا يقول بها إلا من اختلج الإيمان صدره.

وكما حدث مع غارودي الذي اهتدى للإسلام في أثناء إقامته في الجزائر إبان فترة مناهضة الاستعمار الفرنسي، فإن هوفمان قد بدأ رحلة الشك خلال إقامته قنصلا لبلاده فيها، حيث شكلت معاناة الشعب الجزائري وقسوة المستعمر وما وجده من عمق إيمان الجزائريين على الرغم من الاحتلال، جذوة التأمل في قلبه وبداية رحلة اليقين في خياله التي قادته إلى الإيمان.

وتزخر كتبه المتقدمة بالروايات التي اكتشف من خلالها في تركيا مثلا وجود صلات بين الإسلام والمبادئ الأخلاقية والإنسانية، وأن تلك المعاني تمتد إلى مجالات التجارة حيث يُثني التاجر المسلم على بضاعة جاره، كما يصرح في كتاباته بنقده لضمور التجربة الإنسانية في الغرب عند تعامله الأسري مع المسنين، إلى غير ذلك من الصور التي تحفز من في قلبه بذرة من الإيمان إلى أن يفكر فيها.

وبعد؛ فقد ورد في كتابه «الطريق إلى مكة» الصادر عام 1996م: «اللهم اجعل الحق يقر في نفسي»، وهو دعاء شخصي اختاره مراد هوفمان في شعيرة الطواف لأول حج له عام 1992م، وكان سبق أن أدى العمرة بُعيد إسلامه، وما أروع أن يتعرف المرء على من يعتنق الإسلام عن اقتناع (من أمثال الفرنسي د. روجيه غارودي المتوفى عام 2012م، والأميركي د. جيفري لانغ) وهي نماذج مشرقة للإسلام في الممارسات والإنتاج الفكري، وأمثلة يتعلم منها المسلمون أنفسهم مكامن عظمة الدين ومقاصده الحياتية ومعانيه الروحية والإيمانية، في زمن صار المسلم يقف فيه وجها لوجه في مواجهة دموية مع أخيه المسلم في عقر بلاد الإسلام.

إنها دعوة لقراءة كتبهم لعلنا نتوصل إلى مثلما توصل إليه الغرباء عنه.

* إعلامي وباحث سعودي