خطاب الأزهر ثمرة وضوح الرؤية

TT

لا أزال أقول، وأكرر القول، إنني أعتبر ما يحدث في أرض الكنانة أمرا مصريا بحتا يملك الشعب المصري وحده الحق في القول فيه سلبا وإيجابا. بيد أنني أجد أن ما تشهده المحروسة (بإذن الله تعالى) ليس مما يكون للإنسان العربي أن يكون منصرفا عنه فهو يدير له الظهر كلية وهو يرى على الشاشة الصغيرة ما يعده بعضا من أخبار العالم، فهو لا يملك أن يكون محايدا يستحضر العقل والهدوء في الأحوال كلها. وليس المجال اليوم مجال الحديث في الصلات والآثار بين ما يجري في ربوع مصر كلها والمناطق المختلفة من الوطن العربي، ولذلك فلسنا نملك موقف العقل والحياد تجاه ما يحدث في مصر. كما أننا لا نملك ذلك بالنسبة لما تتسارع به الأحداث في تونس وليبيا، ومع الاختلاف بين مصر وكل من البلدين العربيين، فنحن لا ننفك من الاعتقاد أن أثر مصر على كل منهما يكاد يكون مباشرا، ومع ما يجري في العراق منذ العقد المنصرم بكيفية أكثر تعقيدا واستدعاء لاعتبار الشرق الأوسط كتلة واحدة في أعين الذين يتربصون بالعرب سوءا (من مختلف النحل والمذاهب الآيديولوجية) كما أن النظر الفاحص يحمل على الحكم بأنه فيما تشهده سوريا من أحداث مهولة لا يخرج عن ذلك.

بيد أن متابعتي لما لا تزال مصر تشهده منذ مطلع السنة ما قبل الماضية وما أجده في مواقف الأزهر الشريف - لا بل إنه موقف واحد ثابت يتغير فيه التعبير وتتبدل اللهجة وحدها دون المضمون - تحملني، إنسانا عربيا وفردا من المجموعة الإسلامية، على أن أتوجه إلى هذه المؤسسة العتيدة بتحية الإجلال والتقدير. وحيث إن من شروط التحية، في مثل مقامنا هذا، توضيح دواعيها والكشف عن دلالتها، فإنني أريد لحديثي اليوم أن يكون بسطا لهذا المقصد.

أجد من خلال اطلاعي على مختلف البيانات والبلاغات التي أصدرها الأزهر وكذا المواقف العملية التي بادر إلى اتخاذها منذ 25 يناير (كانون الثاني) (أو بعدها بزمن يسير) أن سمات ثلاثا أساسية ظلت تحكم ما يصدر عن المؤسسة العريقة من قول وتوجهه فيما يقدم عليه من فعل: الأولى هي الاستمرارية والوضوح الكامل، والثانية هي إرادة الانفتاح على المجتمع المصري بكل مكوناته وأطيافه، والثالثة هي الحرص الأكيد على مراعاة روح الوسطية على الحقيقة.

فأما الوضوح في خطاب الأزهر فهو ثمرة وضوح الرؤية فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة: ذلك أن الدولة قضية مصلحية، كما يقول العارفون بمقاصد الشريعة، وهي بعيدة كل البعد عن التصور الذي يقول بقيام الدولة الدينية على النحو الذي تتقرر فيه في العقيدة الثيوقراطية - أي تلك التي تأخذ بمبدأ الحق الإلهي أو الحق المقدس للحكام. من ثم نجد أن البيانات المتعلقة بالحريات العامة الصادرة عن الأزهر (وسنعود إليها) تنص على وجوب «تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة التي تعتمد على دستور ترتضيه». ومن البين بذاته أن خلف كل كلمة في هذه الجملة دلالات وإحالات على الفكر السياسي الحديث وعلى الفقه الدستوري المعاصر. وأخص ما تفيده هذه الإحالات هو أن إرادة الشعب تعتبر إرادة يجب الالتزام بها فلا إرادة أخرى تعلو عليها، مثلما تفيد أن ما يتعين العمل بموجبه هو ما تفيده الممارسة الديمقراطية الحديثة في تجلياتها المعلومة، تلك التي يكون فيها الانتخاب والتصويت وسيلة ضرورية ومهمة بيد أنها لا تكون الوسيلة الوحيدة مطلقا وإنما يكون كل تعبير عن «الإرادة العامة» (في المعنى الذي يوضحه روسو مثلا) شكلا مقبولا تماما. من ثم كانت نصرة الأزهر لثورة 25 يناير، وبموجب المنطق ذاته كانت البيانات التي أصدرها الأزهر لاحقا وكان الاعتراض والتحفظ التام على ما نعت بالإعلان الدستوري المكمل. وبموجب هذا المنطق ذاته كانت مباركة الأزهر لخروج 30 يونيو (حزيران) وكان الحضور الرمزي القوي لحظة الإعلان عن خارطة الطريق وتنحية الرئيس محمد مرسي عن السلطة وبموجب هذا المنطق أيضا كانت دعوة شيخ الأزهر إلى الخروج مرة أخرى يوم 3 يوليو (تموز) دعما معنويا للسلطة التنفيذية المؤقتة وتأكيد الإشهاد العلني بأن ما تم ليس من الانقلاب العسكري في شيء. وبموجب المنطق ذاته كانت إدانة الأزهر لما وقع من أحداث دموية فجر اليوم الموالي للخروج. والاستمرارية في سلوك الخط الواحد هو ما يؤكد وضوح الرؤية والحمل الواعي لمسؤولية ما يترتب عن الرؤية من تبعات ومن أفعال ملموسة.

وأما إرادة الانفتاح على المجتمع المصري في تنوعه وامتداده فإن أفضل تعبير عنه هو تلك التوقيعات الثلاثون التي رافقت بيان الحريات العامة حيث نجد تمثيلا لمختلف شرائح رجال الفقه والفن والأدب والقانون والإعلام وهذا من جهة أولى، وهو الحرص من الأزهر، من جهة ثانية، على استحضار «إنجازات كبار المثقفين المصريين ممن شاركوا في التطور المعرفي والإنساني» جنبا إلى جنب مع «روح تراث أعلام الفكر والنهضة في الأزهر الشريف» (مقالتنا في «الرأي» 5-01-2012). مما يجعل من المؤسسة العتيدة تعبيرا فعليا عن الشخصية المعنوية المصرية ولسان صدق يحدث عن تراثها الحضاري. وإذن فلا غرابة أن يكون الشعور بوجوب الالتزام بالقضية المصرية، أولا وأساسا، مع الوعي بما يجب للأزهر من إشعاع حضاري إسلامي عريض، هما وموجها معا.

وأما ما أقول عنه إنه التشبع بروح الوسطية الإسلامية التي امتدحها القرآن الكريم فتجد أفضل تجلياتها في الفهم المستنير لمعنى الدولة الحديثة ومتعلقاتها (المواطنة، مراعاة حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا القول بسيادة القانون واعتبار الدستور أو القانون الأسمى للأمة هو المرجعية العليا...) والقول بأن الدولة الحديثة لا تقوم إلا في مراعاة هذه المبادئ العليا وهذا من جهة أولى والقول، من جهة ثانية، بالاحتكام إلى روح الشرع الإسلامي. هي الدولة المدنية الحديثة من حيث إنها لا تجد تضادا مع المرجعية الإسلامية، وقد كان الموجه فيها هو تقصي مقاصد الشريعة والمقصد الأسنى فيها هو توخي مصلحة الخلق.

غني عن البيان أن مصر هي أحوج ما تكون اليوم في حاجة إلى التدبر في خطاب الأزهر الشريف، ففيه إبانة عما يجيش في الوجدان، في زمان كثر فيه التوسل بالدين الإسلامي لخدمة مقاصد وأغراض تبتعد عن روح الإسلام. فتحية إجلال وتعظيم للمؤسسة العتيدة ولعلمائها الكرام.