التقنية تفوز!

TT

اليوم هناك حديث متزايد ولا يتوقف عن آفاق دمج التقنية والطب لمصلحة خدمة نظام الصحة وتحسين فرص كل من تشخيص الأمراض ومحاولة علاجها. وما يطرح من حلول لتحديات معقدة ومهمة يمكن أن يتم إدراجه في خانة الخيال العلمي أكثر من خانة العلوم والتقنية. هناك حديث مهم عن اختراع طبي «مذهل» عبارة عن حبة يتم بلعها، والحبة هذه من فئات الحبة الذكية، وهي مزودة بكاميرا دقيقة وكذلك أدوات حادة أشبه بالمناشير الدقيقة. والغرض الرئيسي من ذلك هو تحسين قدرات الوسائل البديلة للتدخل الجراحي. فهذه الحبة سيكون بمقدورها أن تؤدي فحصا دقيقا لداخل جسم الإنسان، مرورا بالدم والعروق والأنسجة والخلايا وعمل إصلاحات جراحية دقيقة، كتوسعة شرايين أو استئصال لأنسجة، كل ذلك طبعا يتم التحكم به عبر أطباء يتابعون الإجراءات آليا. وهناك تطور آخر لا يقل أهمية ولا إثارة للجدل الكبير، وهو أن يقوم الطبيب بممارسة العمليات الجراحية (وهو في بلده) بينما ينتقل افتراضيا عبر ارتدائه لأجهزة خاصة تمكنه من القدوم إلى بلد المريض ليكون بجواره (افتراضيا) ويحس ويرى ويسمع كل تفاصيل الحدث ويشرف على التفاصيل الطبية والمهنية وكأنه موجود تماما. وبالتالي سيكون من حق المريض أن يختار الطبيب الذي سيجري له العملية من أي بلد حول العالم بحسب كفاءة الطبيب في المستشفى الموجود بمدينته. وطبعا في هذه الحالة ستفتح سلسلة هائلة من التحديات أمام المؤسسات المعنية بتنظيم مهنة الطب، مثل وزارات الصحة والنقابات المهنية وشركات التأمين الصحي؛ لأنها سوف تكون معنية بتأسيس فهم جديد لمعنى المسؤولية المهنية و«السيادة الوطنية» و«حدود وجغرافيا الطبيب والمريض» في ظل إعادة رسم تام للحدود والمفاهيم، وذلك مع تطور مهول وغير مسبوق في التقنية التي تتيح للمريض وللطبيب خيارات لم تكن موجودة ولا حتى في خيال كل منهم. كيف ستغطي شركات التأمين «مسؤوليات» أطباء خارج حدود مكان عقود التأمين المتفق عليها؟ هل ستعتبر وزارات الصحة العمليات التي تجري في بلد آخر (أو على أقل تقدير يجريها الطبيب من بلد آخر) محلية تخضع تحت رقابتها ومسؤوليتها، وخصوصا أن الطبيب الذي يجري العملية ليس مرخصا من قبل الوزارة؟ قد يعني ذلك أن مهنة الطب مقبلة على أفق الترخيص الأممي المعولم، إصدار واحد من كيان واحد (منظمة الصحة العالمية مثلا؟) يغطي مستشفيات وأطباء العالم بمعايير مهنية جديدة، يتم فيها إعادة تعريف لدور وزارة الصحة في بلادها وفي إعادة تعريف معنى السيادة الوطنية نفسه من الأساس. التقنية وتعاملها مع قطاع الطب والصحة هي مجرد مثال واحد من أمثلة عديدة ومختلفة عن قدرة التقنية في تسهيل حياة البشر وإعطائه أكبر قدر ممكن من الخيارات، وبالتالي «التمكين» بعد أن كانت في السابق صورة نمطية واحدة ولا غيرها، وهي أن الخيارات دائما محدودة والحكومات فقط هي التي تعلم المصلحة والصالح العام. وما ينطبق على قطاع الصحة والطب البالغ الأهمية ينطبق على قطاع التعلم والتعليم، وذلك في ظل زيادة رقعة الفصول الافتراضية في جامعات ومدارس ومعاهد يتم فيها الجمع بين المناهج المصممة بحسب احتياج الطالب و«المعلم» فيها افتراضيا مع كل واحد منهم، وهم في الأساس منتشرون في زوايا الكرة الأرضية المختلفة لا يجمعهم إلا الرغبة في التعلم والمعرفة، وهذا أيضا سيكون تحديا غير بسيط أبدا لوزارات التربية والتعليم في العالم التي «تحمي مناهجها» و«تسيطر على فكر معلميها»، ولكن كل ذلك الأمر وبالتدريج سيصبح شيئا من الماضي؛ لأن الخيارات بالتقنية تفتح، ولا مجال إلا تمكين من يتعامل معها. مهن كثيرة قضي عليها مع تطورات التقنية، مهن مثل الصراف في البنوك، المعقب في الدوائر الرسمية ووكيل السفر والسياحة، وبالتالي سيعاد «هندسة» دور الطبيب والمعلم وغيرهما من المهن في ظل تطور تقني مذهل، ومن الأفضل الاستعداد بوعي وجدية لذلك الأمر بدلا من إنكار حدوثه والتهرب من مواجهته دائما.