دول الخليج بين نهاية الأيديولوجيا واستقرار الفوضى

TT

خمسة شهور فقط هي المتبقية على نهاية العام الحالي 2013، وما زال سقوط الإخوان المسلمين من حكم مصر هو الحدث الأبرز حتى الآن، ليس لأنه حدث في دولة محورية عربيا، أو أنه كان ضربة شعبية للإسلاميين في المنطقة. بل لأنه كان بداية مرحلة جديدة لما يسمى بالربيع العربي الذي انطلق منذ ديسمبر (كانون الأول) 2010.

عندما بدأ الربيع العربي كانت التوقعات والطموحات تشير إلى أن المنطقة العربية مقبلة على مرحلة تاريخية من الإصلاح السياسي والديمقراطية، ولكن هذا الطموح سرعان ما تبخر بعد أن تولت التيارات الإسلامية مقاليد الحكم في دول الثورات العربية. ومع ذلك كانت التحليلات تشير إلى أن تجربة ديمقراطية جديدة ستظهر في الدول العربية على غرار التجربة التركية التي تتمازج فيها الديمقراطية الغربية مع المجتمع المسلم وليس الإسلامي.

ولكن إصرار الشعوب العربية، ورفضها لحكم التيارات الإسلامية أكد حقيقة مهمة، وهي أن المزاج العربي السائد ما زال مزاجا غير مستقر، فليس معروفا ما إذا كان الرأي العام العربي يميل لأي تيار أو أيديولوجيا معينة الآن.

بالمقابل، فإن حدث سقوط حكم الإخوان كان مؤشرا على انتهاء عهد الأيديولوجيا في الشرق الأوسط، فأيديولوجيا القوميين ثم اليسار والاشتراكية وبعدها الإسلامية التي سيطرت على تحولات السياسة في المنطقة منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، انتهت وليس متوقعا عودتها قريبا إذا كانت هناك فرصة. وكانت نتيجة هذا السقوط هو بدء حالة استقرار الفوضى التي تعني عدم قدرة أي قوة سياسية على ضبط الدولة والحفاظ على استقرار النظام السياسي أمنيا كنتاج لحالة تشتت القوة السياسية داخل النظام، ويمكن مشاهدة ذلك في مصر وتونس وحتى ليبيا وأيضا اليمن.

حالة استقرار الفوضى خلقت بيئة غير مستقرة في الشرق الأوسط، من أهم سماتها عدم إمكانية استقرار مؤسسة الرئاسة مهما تعاقبت عليها من تيارات أو أحزاب سياسية وسبب ذلك تحدي إعادة توزيع القوة السياسية بين جميع الفاعلين السياسيين في الأنظمة العربية. ومن سماتها كذلك تكوين بيئة خصبة للتطرف وظهور الجماعات الراديكالية، وتكون المحصلة حالة صراع أهلية ودموية بين مختلف المكونات في المجتمعات العربية.

إذن النتيجة انتهاء الأيديولوجيا في الشرق الأوسط مع انتقاله لمرحلة استقرار الفوضى، والسؤال هنا: كيف ستتعامل دول مجلس التعاون الخليجي مع هذا الوضع؟ وما هي أهم تحدياته؟

بلا شك فإن الوضع السياسي والأمني في المنطقة معقد للغاية، وليس متوقعا أن تنتهي هذه المرحلة قبل نحو 10 - 15 عاما من الآن. وطوال هذه الفترة فإن تصاعد الصراع والعنف السياسي والإرهاب هو السمة الغالبة، مما يعني أن هناك تحديات أمنية ستواجهها دول الخليج تتطلب منها تدخلا مباشرا وأحيانا تدخلا غير مباشر من أجل الحد من تداعيات هذه البيئة غير المستقرة على دولها ومجتمعاتها.

على الصعيد الداخلي، فإنه من الطبيعي أن تشدد دول الخليج إجراءاتها الأمنية الداخلية لحفظ الأمن والاستقرار مع تصاعد العنف في محيطها الإقليمي، ووجود احتمالات بانتقال الجماعات الإرهابية والراديكالية من بعض الدول العربية إلى دول الخليج. ومن العوامل المساعدة تنامي المخاوف الشعبية الخليجية من زعزعة الاستقرار في مجتمعاتها على غرار ما حدث ويحدث في الدول العربية الأخرى.

ولكن التحدي هنا هو كيفية التوازن بين الإجراءات الأمنية، وانتهاء السيطرة على وسائل الإعلام في ظل وجود شبكات التواصل الاجتماعي التي أتاحت للأفراد حرية الرأي والتعبير دون قيود. هذه القنوات قد تمثل تحديا على المديين المتوسط والطويل، وهي بلا شك تحتاج استراتيجية واضحة للتعامل بما يضمن حقوق المواطن الخليجي وحقوق الدولة الخليجية وأمنها الوطني.

قضية الإصلاح السياسي ستبقى ملفا حذرا لا يمكن حسمه بسهولة، وحتى إن تمت الدخول في مساراته فإنها ستكون بطيئة ومتدرجة، لأن أي تغيير سياسي أو تحولات ديمقراطية واسعة النطاق بشكل مفاجئ يمكنها أن تخلق بيئة غير مستقرة أيضا.

بالإضافة إلى ذلك فإن الأيديولوجيات والجماعات الأيديولوجية التي كانت الحكومات الخليجية حذرة منها طوال العقود الماضية ستتضاءل بعد فشل هذه الجماعات في إقناع الجماهير بجدوى مشاريعها السياسية، وانتهاء عهد الأيديولوجيا.

أما على الصعيد الخارجي، فإن التهديدات الإقليمية ستستمر وتكون موجودة أمام دول مجلس التعاون، فهي لا يمكن أن تبني علاقات مستقرة وتطور المصالح المشتركة مع الدول العربية غير المستقرة، ولكنها ستستمر في دعمها سياسيا وماليا وإعلاميا من أجل إعادة الاستقرار السياسي الذي سيستغرق وقتا طويلا لكي يعود. وهذا المشروع سيكون مكلفا للغاية عبر التمويل الذي ستضخه دول الخليج في اقتصادات الدول العربية غير المستقرة.

وفي الوقت نفسه ستواجه موجات جديدة من الهجرات العربية إلى مجتمعاتها، حيث ستلجأ آلاف الأسر العربية في الدول غير المستقرة إلى البحث عن مجتمعات أكثر استقرارا لتأمين حياتها ومستقبلها، وستجد دول الخليج نفسها مضطرة لاستقبال موجة جديدة من الهجرات العربية مشابهة لموجات تاريخية سابقة كما حدث في موجات 1948 أو 1967 أو 1975، وهي موجات ستخلق واقعا جديدا في مجتمعات الخليج، وكذلك لها تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية مستقبلا.

تبقى مسألة أخرى مهمة، وهي جدلية القيادة العربية، فلعقود طويلة كانت القيادة العربية ثلاثية الأبعاد (السعودية، وسوريا، ومصر)، ولكن هذه المعادلة انتهت اليوم، وصارت متاحة فقط للسعودية وحليفاتها من دول مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي يفتح فرصا جديدة نحو تحقيق تطلعات العاهل السعودي عندما طرح مبادرته التاريخية بالانتقال من التعاون إلى الاتحاد.

دول الخليج بين نهاية الأيديولوجيا واستقرار الفوضى تعني مجموعة من التحديات، وفي الوقت نفسه المزيد من الفرص التاريخية، والأهم من هذا كله هو أن تضع دول مجلس التعاون الخليجي في أولوياتها الحفاظ على أمنها الإقليمي وأمنها الوطني للحد من نتائج البيئة الجديدة في الشرق الأوسط.

* رئيس تحرير جريدة

«الوطن» البحرينية