أين تمضي فصل الصيف؟

TT

كان يونس بحري أشهر مذيع عربي قبل أن يتخذ أحمد سعيد تلك الرتبة. بسبب فلسطين تعاطف العرب مع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، ومن برلين كان يطل يونس بحري كل يوم مرددا جملته الشهيرة: «هنا برلين، حي العرب». وعندما هُزمت ألمانيا هُزم يونس القادم من الموصل. وطفق يبحث عن رزقه حيث وكيفما استطاع؛ جزارا أو إمام مسجد أو صاحب ملهى في باريس، ومن ثم مذيعا عند نوري السعيد، ألد أعداء هتلر.

تنقل صاحب «حي العرب» بين المدن وبين الزوجات، ظريفا لاهيا وجليسا يستظرفه الموسرون. ومن يتنقل أو يتشرد بين المدن والزوجات، لا بد من بيروت بعد زمن صفاء. صيف 1958 اشتعلت في لبنان «ثورة» كانت مجرد بروفة لحرب 1975. كانت ذريعة «الثورة» أن الرئيس اللبناني كميل شمعون أيد «حلف بغداد»، الذي تعارضه مصر الناصرية. وتذكر الناصريون في بيروت أن يونس بحري عميل لنوري السعيد (والإمبريالية والاستعمار و«قَد» خائن) فهاجموا منزله. ولما لم يعد هناك هتلر يهدِّد به أو به يلوذ، فقد خاف بحري من أن يكون الهجوم التالي على شخصه العزيز.

قال لزوجته: نمشي بغداد حاجة! اعترضت الحاجة: شنو بغداد عيني، الدنيا حر موت، ليش ما نطلع الجبل؟ فكّر يونس قليلا ثم قال بلهجته الخطابية: ليش، ماكو ناصريين في الجبل؟ قومي حاجة قومي! وصل الزوجان إلى بغداد أوائل يوليو (تموز). اتصل صاحبنا بالأصدقاء، وقرر أن يؤجل الاتصال بصديقه نوري السعيد أسبوعا آخر ليعرض خدماته الإذاعية من جديد.

لم يكن ذلك الصيف حارا في بغداد فحسب، بل كان الأكثر حرارة. في 14 يوليو (تموز)، أفاق يونس بحري على صوت عبد السلام عارف يدعو العراقيين إلى مهاجمة القصر، واعتقال نوري السعيد لقاء جائزة قدرها عشرة آلاف دينار. كان عارف يعرف أن أهل القصر قُتلوا جميعا، لكنه كان يريد المزيد من الدماء. طفقت الغوغاء تقتل في الشوارع كل من يشار إليه على أنه وزير. سُحل رجل يشبه فاضل الجمالي على الرغم من أنه أقسم على أنه لا يعرف الاسم. يصف يونس بحري في مذكراته يوما من أيام الجحيم؛ شوارع بغداد تفيض دماء وقتلا وسرقات ونهبا والتماثيل تسوى بالأرض.

في اليوم التالي لثورة الصيف الذي هرب إليه يونس، تم اعتقاله (بناء على أوامر عارف) مع الصحافيين المحسوبين على العهد السابق، وخصوصا على نوري السعيد الذي «قُصِّبت» جثته من دون انتظار الجائزة التي وضعها «الضابط الحر». أمضى بحري سبعة أشهر في السجن من دون أن توجه إليه تهمة، ثم أفرج عنه، فعاد إلى بيروت ليجد أن عهدا جديدا قد بدأ. بلا تقصيب وبلا بلاغات عارف.