عيد سعيد؟ نتفاءل، نتشاءم، أم نتشاءل.. ما الجديد؟!

TT

بدءا، يجب أن ينسب فضل القول لأهله فأبدأ بتثبيت ما هو معروف. استعرت مفردة «نتشاءل» الواردة في العنوان من ناحتها الكاتب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي، صاحب «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، الرواية المضحكة المبكية الصادرة سنة 1974. لو كان أبو سلام لا يزال بيننا، وسمع تساؤلي، لسارع يطالب بالتفاؤل. أتصور ابتسامته تطغى على عبوس مقنع، إذ يتساءل: ولو، شو السيرة، يجب أن نتفاءل.

نعم، بالفعل، ما السيرة، أثمة موجب لحيرة في يوم عيد بين تفاؤل وتشاؤم، أم أتراها حيرة تخصني، بينما الناس، كلهم أجمعون، في فرح وسرور؟ ربما، لكن الأمر ليس بجديد، على الأقل بالنسبة لي. كانت والدتي تقول: «من ساعة ما وعيت على الدنيا، ما أجانا عيد يفرح كل الناس»، وتواصل: «هيك هي الدنيا، الله يكون بعون اللي حالهم أصعب». ومن هم أولئك، كنت أسألها في صباي، فتجيب بلا تردد: «الحمد لله، حالنا يا ابني أحسن من كثيرين غيرنا». نون الجماعة، في حديث والدتي، اللاجئة مع والدي من بئر السبع إلى غزة، تشير إلى جموع اللاجئين الفلسطينيين. أما حديثها عن سنين «وعيها على الدنيا»، فيشير إلى زمن صباها في عكا، قبل هجرة معظم أفراد أسرتها، وتشتت أشقائها وأخواتها بين صيدا وطرابلس في لبنان، ودمشق وحلب في سوريا، بعد إعلان دولة إسرائيل. ترى، لو أن والدتي لا تزال بيننا، أكانت تعجب لو قيل لها إن حال لاجئي دول عربية، داخل أراضي بلدانهم وخارجها، يفوق سوء أحوال لاجئي مخيمات فلسطينية في لبنان، وسوريا، والأردن، وغزة، والضفة الغربية، بمراحل؟ لعلها ستعجب، لكن مر الحقيقة يصرخ، بما هو أشد مرارة، فعشرات الآلاف من الأمهات على امتداد العالم العربي، يعشن اليوم عيد فطر أشد حزنا من حزن أعياد أمهات، من جيل أمي، وإن اختلفت الأسباب، بل إن الوجع الأكبر هو في اختلافها. فذاك كان حزن إبعاد وتهجير من بلاد احتلها غرباء، فكيف يكون ألم مَن أُبعد وهُجِّر داخل وطنه، بفعل نفر ممن هم أهل بلده؟

صحيح أن التغيير باهظ الثمن دائما، إنما صحيح أيضا أن الدم العربي الذي سال بأيدي عرب، خلال الخمسين عاما الماضية، وليس فقط السنتين الأخيرتين، سبب من الأحزان فوق ما يحتمل. ثم من أجل ماذا؟ هل أن ما سفك، ولا يزال، من الدم العربي، في حروب العرب الأهلية، دفع أو يدفع ثمنا لتغيير نحو الأفضل؟

***

دٌعيت سنة 2008 للتحدث أمام الملتقى الثقافي العربي في لندن، بمناسبة مرور ستين عاما على نكبة 1948. بدأت الحديث يومها بأنني أكبر دولة إسرائيل بعام، وختمته بأن حفيدتي بلغت سنتها العاشرة، وأنني أتمنى إن هي عاشت أربعين عاما فبلغت نصف قرن، وأتمت إسرائيل قرنها الأول (2048)، أن يكون حال الفلسطينيين، عند ذاك، أفضل من حالهم لحظة حديثي ذاك. أذكر أن شابا بمنتصف العشرينات بين الحضور وقف قائلا ما خلاصته: إن كنت قد تعبت، أو جيلك كله تعب وأصابه اليأس، فنحن لم نتعب، ولم نيأس، لا نزال في أول الطريق، الثورة مستمرة. سألته، من أين هو، فأجاب: من غزة. قلت ما مضمونه: لست أفرض عليك رؤيتي، لم أطلب منك أن تيأس، كل ما في الأمر أنني آمل بوضع لجيل حفيدتي أفضل من حال جيلي، وما يواجه جيلك أيضا، أين المشكلة، في الواقع، زمن كنت في عمرك، وكذلك رفاقي كلهم، وأغلب جيلنا، كنا على نهج رؤيتك ذاتها، وكان من يجرؤ على القبول بأقل من استرجاع فلسطين كلها يرمى بحجارة تلاميذ المدارس، إذا نجا مما هو أفظع.

بين البدء والخاتمة، كنت في ذلك الحديث عرضت لمراحل مفصلية مرت بها مأساة المظلمة الفلسطينية، ولم أخفِ أنني تمنيت لو أن تعامل الطرف الفلسطيني مع العملية السلمية، اعتبارا من اتفاق أوسلو ولاحقا، كان أكثر ذكاء، أو أبعد دهاء، إن شئت، لسبب بسيط جدا خلاصته أن يحاول الفلسطينيون بناء أنفسهم ضمن حدود دولة يعترف بها المجتمع الدولي قاطبة، على رغم مناورات دهاقنة تل أبيب، من طراز الإسحاقين الراحلين شامير ورابين، وشيمعون بيريس، المحتفل قبل أيام بعامه التسعين، كان ذلك من شأنه تمكين الفلسطيني من العبور نحو المستقبل، بأقل الممكن، فيحيل ضعفه لقوة، خصوصا في مجال العلم والتقنية، ويزداد نصيبه من الحضور الفاعل في مشارق الأرض ومغاربها، فيثبت ما ليس بحاجة لإثبات، وهو أن أمة تتسلح بعقول أبنائها مستحيل أن تهزم مهما تغوّل مغتصبو حقوقها، ومهما طال انتظار استعادتها من السنين ما قدر لها أن تطول. لكن هكذا طرح قليل الحظ، إذا وجد من يستمع إليه، رمي المسموع، وربما السامع أيضا، بغليظ القول.

ترى، أين صار الحال الفلسطيني إذ نقترب من مرور عشرين سنة على توقيع اتفاق أوسلو (الاثنين 13 سبتمبر/ أيلول 1993) بحديقة البيت الأبيض؟ هل مشى إلى الأفضل، أم تراجع، أو أنه راوح مكانه؟ بالتأكيد، على مستويات عدة، خطا الفلسطينيون خطوات ملموسة نحو مستقبل أفضل. مع ذلك، مؤلم أن التراجع حصل عما تحقق من تقدم في غير مجال، ثم إن المراوحة في أكثر من مربع لا تزال مستمرة. هل يجوز وضع المسؤولية على كاهل القيادات الفلسطينية وحدها، على اختلاف شخوصها وبرامجها؟ المنطق، لا الهوى، يؤكد أن الطرف الإسرائيلي يتحمل من المسؤولية النصيب الأكبر، لسبب بسيط يقول إنه الجانب الأقوى في المعادلة، ولو صدق ساسة إسرائيل في التوصل إلى اتفاق سلام شامل مع أغلبية فلسطينية أعلنت قبولها بمبدأ التعايش، لأمكن تحقيق ذلك بالتنازل عن طمع تطبيق المعادلة غير العادلة مع الفلسطينيين: «ما لنا هو لنا.. وما لكم هو لكم ولنا». هناك أيضا، مسؤولية تهاون الراعي الأميركي، وإلى حد ما الأوروبي، كلاهما لم يعدل، وفي أغلب الأحيان جرى تحميل الطرف الفلسطيني، وهو الأضعف، أكثر مما يحتمل. غير أن ذلك لا ينفي قدرا من المسؤولية الفلسطينية يتمثل في ما أشرت إليه من قبل، أعني إضاعة بضع فرص مهمة أتيحت، لعل أهمها أواخر أيام ولاية الرئيس بيل كلينتون، التي شهدت زيارته إلى غزة. أتذكر الآن أنني سمعت من السياسي المغربي الراحل، الدكتور عبد الهادي بوطالب، ما خلاصته أن معلوماته الموثقة تؤكد أن الرئيس كلينتون كان ينوي أن يصحب ياسر عرفات إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويتولى بنفسه تقديمه كرئيس لدولة فلسطين المستقلة، كاملة العضوية في المنظمة الدولية. هل كثير، إذن، إذ أستحضر، تلك المعلومة، أن أتذكر أيضا همهمة إميل حبيبي بالمثل الفلسطيني: «يا بنشرب من راس النبع يا بنضل عطشانين»؟ عيد سعيد.

[email protected]