آثار الانتفاضات على «ثقافة» الخليج

TT

غطت الأحداث الحالية بياض المساحات حتى أصبح الحديث عنها مملا. ذلك أنها ساهمت في تراجع الفنون والأدب والإبداع لصالح الميديا ومواقع التواصل والسرعة في التحليل والتداعي نحو الحدث الواحد بغية تحليله أو فهمه. والتحليل مخاتل إذ ما تفتأ الفكرة أن ينقضها الحدث بطريقة تسلسلية تجعل المشهد مختلفا عن تعقيد الحدث. زاوية الخليج من هذا المشهد مختلفة. فرغم اختناقه ثقافيا واجتماعيا من هذا الحدث بوصف الخليجيين الأكثر تحدثا ربما عن الانتفاضات العربية وبقايا الاضطرابات بشتى مقاييسها، رغم كل ذلك بقي منساقا وراء الحدث بتفاصيله. ذلك أن مستوى الرفاهية وامتلاك الوقت نظير قلة ساعات الوظائف تدفعهم إلى الانخراط بالحدث العربي من أجل التحليل أو التطفل والتعليقات والخطابات، وهذا هو خطاب اللحظة عبر «التايم لاين» الذي غالبا ما يكون كلاما تنتهي قيمته خلال ثوان معدودات.

الحدث بضخامته طوال سنواته الثلاث لم يكن منتجا على كل المستويات في الخليج إلا على مستوى انكشاف الأصوليين المختبئين، وتحول الخليج إلى قبلة سياحية بامتياز، وإلا فإن الحدث العربي ساهم بالردة الثقافية الكبرى التي نعاني منها إذ تراجعت الثقافة، فمنذ 2001 كانت مرحلة الضخ في الرواية والشعر والأدب والإبداع والاهتمام الفلسفي تبرز في الخليج بوصفها الفنون الأكثر جذبا وأمنا بعد انتشار خوف الإرهاب وما إليه. تراجعت لصالح اجتياح التفاهة وانتشارها عبر الغليان الكاذب الذي يمارس في مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الصيغة من التداول أثبتت أن الكثير مما ظن أنه شحم لم يكن إلا ورما. وحين تتأمل في الاهتمامات تجدها سطحية لم تكن بمستوى الهبة التي كانت. بقيت هذه المواقع بقدر ما هي كاشفة لمستوى الردة الثقافية بالخليج فضاحة للمزيفين الذين كانت لديهم بوادر بعض الأطروحات التي من الممكن أن تجذب الاهتمام.

قال الكاتب اللبناني الراحل سمير قصير في كتابه «تأملات في شقاء العرب»، كان هذا الكلام يسحرنا في السابق لكن حين نتأمل الجمال الثقافي الذي نمتلكه فسنكتشف زيف هذا الكلام البائس؛ ذلك أن الخليج أصبح منتجا ثقافيا وليس مستهلكا، وهذا آمن به أدونيس وهو من جيل جماعة «اللوبي»؛ إذ قال إن الخليج هو الأكثر لفتا للأنظار على مستويات الأدب والشعر، وكلام أدونيس ليس دليلا؛ فالدليل ما نقرأه يوميا وما نتابعه من إنتاج.

أسماء كثيرة بحوثها وإنتاجها الثقافي والأدبي يستحق أن يكون موضع نقاش طويل في الخليج، غير أن مشكلة الخليجي أن الخليجيين لم يقتنعوا به، ولو أن كتابا كـ«القبلية» لنعيمان عثمان أو «دريدا عربيا» لمحمد أحمد البنكي، أو «الفكر العربي وصراع الأضداد» لمحمد جابر الأنصاري، أو الشعر الفذ لقاسم حداد أو الرواية الذكية لدى عبده خال، لو أن هذا الإنتاج وغيره بالمئات كان بأسماء غير خليجية لتزاحمت الجوائز على التكريم والتقدير.

الأهم أن لا تؤدي هذه الأحداث الهوجاء والاضطرابات في المنطقة إلى تعطل الإبداع أو تحوله إلى السرعة والرثاثة بالطرح أو الاغتباط بالتدوينات؛ إذ بعضهم يعمل على جمع ما يكتبه في تلك المواقع بكتاب للحفاظ عليها من الضياع!

الأحداث العربية الحالية يجب أن لا تفقد الخليج تميزه، فالماضي الذي كان فيه الخليج مشجبا للديناصورات غير المرتاحة له انتهى وولى. الآن الخليج يمتلك الصرعة التنموية ولديه ريادتان ثقافية وتنموية، والخليج ليس نفطا كما يقول بعض الكتاب الخليجيين في كتاباتهم. بل الخليج توليفة تحمل أعطالها وأنوارها المشكلة في الذين لم يجدوا التوليفة منذ نصف قرن حتى ديمقراطياتهم كرتونية هزيلة. أن تمتلك توليفة جيدة مفيدة نافعة آسرة استقطبت العرب والغرب هذا يكفي لأن يكون مجالا للإشادة والامتثال، وقالها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في حوار معه على الـ«سي إن إن» في 5 يناير (كانون الثاني) 2012: «لدينا هنا في دولة الإمارات العربية المتحدة ديمقراطيتنا الخاصة بنا، فلا يمكن لأي دولة في العالم تصدير ديمقراطيتها إلينا. وطالما أن الشعب الإماراتي راض بحكمنا، فسنسعى جاهدين لأن نكون عند حسن ظنهم».

ها هي الاضطرابات شرقا وغربا لم يفلح صناعها بإيجاد توليفة تصنع الاستقرار والتنمية، بحيث تصفو الشوارع ويزدهر التعليم ويسود الأمن، على الخليج أن يضع سياجا بينه وبين التراجع الذي يحيط به من كل حدب وصوب.

* كاتب سعودي