دروس هندية!

TT

لم أخف يوما إعجابي بتجربة الهند عموما سواء أكان في نضالها الاستقلالي العظيم ضد المستعمر البريطاني الكبير وأسلوب الزعيم الوطني غاندي في مكافحة الاستعمار بالأسلوب اللاعنفي، والذي نجح في إسقاط حكم الإمبراطورية البريطانية عن الهند، وقلت قديما وأعيد القول إنه لو بقيت باكستان وبنغلاديش ضمن الهند لكان أفضل للهند وأفضل للمسلمين فيها. فحال المسلمين في الهند حتما هو أحسن من حالهما في باكستان وبنغلاديش. ولا شك الهند بلد مهم جدا، هو اليوم ثالث أكبر اقتصادات آسيا بعد الصين واليابان، وهو أيضا البلد الذي يضم أكبر وأهم ديمقراطية في العالم نظرا لوجود كم غير مسبوق من الأقليات والعرقيات والديانات والمذاهب والطوائف واللغات والثقافات جميعا تحت مظلة القانون والنظام الواضح الذي يكفل بصريح النص حق العدالة والمساواة والمواطنة الكاملة. وكون الهند بصفتها دولة من دول العالم الثالث انطلقت بامتياز محملة بأثقال الأمية والفساد والاقتتال الداخلي وتدهور البنية التحتية، فأجد أنه من الضروري التمعن في تطورات التجربة الهندية بشكل تصاعدي والتدبر في التطبيقات العملية لفكر التسامح والإصلاح والمكاشفة والمساءلة والمحاسبة والحوكمة والمواطنة، فهي ليست شعارات وكلمات تردد في مناسبات عامة ولكنها سياسات وتشريعات توضع لأجل الكيان الوطني ومن يعيش فيه، فالهند تقول هذه الشعارات وترددها وتعمل على تحقيقها عمليا وهذا هو الفارق الجوهري بينها وبين غيرها. ولذلك يتابع كثير من الهنود حوارا نخبويا راقيا ومهما بين اثنين من أهم علماء الاقتصاد اليوم في العالم، والاثنان هما من أصول هندية ويعملان في اثنتين من أهم الجامعات في العالم الأول، فهناك البروفسور آمارتيا سن، الاقتصادي الحائز جائزة نوبل للاقتصاد والذي يدرس في جامعة هارفارد العريقة، وفي المقابل هناك جاديش بهجواتي الاقتصادي المشهور الذي يدرس في جامعة كولومبيا ذائعة الصيت. وكلاهما لديهما رأيان في منتهى التأنق فيما يخص وضع الاقتصاد الهندي حاليا ومستقبلا. فهناك التحدي الأكبر الذي يواجه كل من يتعامل مع الاقتصاد الهندي الكبير وهو كيفية إخراج الشعب الهندي من أعماق الفقر الكبير الذي يقضي على الأمل. بهجواتي يعتقد أن الاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية وتحرير القيود البيروقراطية وفك الأسواق من الأسر الروتيني، سيساعد في جلب النمو المطلوب لإخراج الملايين من الهنود خارج دائرة الفقر الكبير. آمارتيا سن من الجهة الأخرى يرى أن الاعتماد على منظومة النمو وتسخير كل موارد الدولة في هذا الاتجاه فقط والتركيز على هذا الطريق وحده لا يكفي وبالتالي هناك احتياج كبير لأن تقوم الدولة بإنفاق كبير ومركز على البرامج الاجتماعية وبالذات على برنامج الصحة والتعليم. والفكرتان فيهما تناقض كبير ولكل حجته وأسلوبه في الشرح والتبرير. ولكن الهند التي تتذوق طعم النمو والصعود المتواصل لاقتصادها تخرج من قيود الاقتصاد العام واقتصاد الدولة والاشتراكية التي حرصت عليها لعقود طويلة حتى تحمي السلم الاجتماعي الذي كان لديها دائما، ولكن التنافس الدولي المحموم بات يحتم إدخال قواعد وشروط جديدة لقواعد اللعبة. الهند اليوم على مفترق طريق اقتصادي كبير، فهي مطالبة باستمرار بتحرير اقتصادها ولكنها ستتعرض لهزات قوية على الصعيد الاجتماعي إذا قررت التخلص من إنفاق الدولة ودعمها لمشاريع وبرامج مهمة وإذا لم تحرر الاقتصاد ستحرم نفسها من استمرار النمو وبالتالي المنافسة الدولية في سوق تنافسية محمومة جدا.

إلى اليوم لم تستقر الآراء على الهدف والقرار المتوقع للآن، فهناك تفاوت واضح في مزايا وعيوب كل قرار وهذا طبع الاقتصاديين الدائم.

الطريق الذي ستختاره وتسلكه الهند يبدو جليا أنه سيكون له آثار غير بسيطة على صعيد خارطة العمل الاقتصادية ككل وليس فقط على الساحة الهندية نظرا لثقل اقتصاد الهند المتنامي عالميا، ولكن الأهم أن هناك كثيرا من الدول العربية التي من الممكن أن تستفيد من خارطة الطريق هذه نظرا لما فيها من ملامح وإسقاطات على كثير من القضايا المحلية بشتى أشكالها.