من مطبات الشهرة

TT

كثيرة هي الملابسات والمضايقات التي أجد نفسي بين طياتها بطبيعة عملي كاتبا وصحافيا. ما إن يدرك هويتي أحد حتى يبادر بالتعرف بي ثم بمحادثتي ومساءلتي عن شتى الأمور. ولكن بعضها انطوى على كثير من الطرائف. كان منها ذلك الرجل الذي التقاني في «أدجوير رود»، أو ما أصبحنا نسميه «عرب لاند». كان بتمام الهيئة العربية، دشداشة بيضاء وشماغ وعقال. ما إن رآني حتى هجم عليّ ليصافحني ويقبلني: «يا أهلا ومرحبا بالأستاذ رشيد الخيون». وقبل أن أنطق بكلمة لأبدد وهمه وتوهمه، مضى في الترحاب: «ما كنت والله آجي لندن وبين كل هالإنجليز أشوف أستاذنا الجليل رشيد الخيون. ياما قريت لك مقالات وشفتك عالتلفزيون...».

- بس تسمح لي أقول لك، آسف أنت متوهم. أنا مو رشيد الخيون.

- لا...لا، لا ما أقبلها منك. أنت تريد أن تتخلص مني! تتكبر علي! يعني أنت أستاذ كبير وأنا عربي بسيط!

- لا والله بس تسمح لي...

- لا ما أسمح لك. والله العظيم ما أفك عنك إلا تتعشى معي اليوم.

وقبل أن أضيف كلمة واحدة، كان قد أمسك بذراعي واقتادني لمطعم سليماني المجاور. لم يترك الرجل الكريم لي أية فرصة لتصحيح فكره أو الكشف عن حقيقتي بعد أن انشغل بمكالمة النادل: «تجيب لنا مشاوي مشكلة وسلطة وشوربة عدس ولبن بخيار وخبز عراقي على ذوق الأستاذ الخيون». استسلمت للواقع. ولماذا أعارض وأضيع هذه الفرصة لوليمة سخية على حساب صديقي الحميم رشيد الخيون؟ وجاءت المشاوي ورحنا نغرف ونقصف فيها.

ومن حسن طباعنا العربية، أننا عندما نلتقي بشخص لا نحاول أن نستمع إليه أو نستفيد من معارفه وتجاربه وأخباره، وإنما ننطلق نحن بالكلام فورا عن أنفسنا وثروتنا وأفكارنا. وهكذا لم يحرجني الرجل بالسؤال عن أي من الموضوعات التي تخصص فيها صديقي الدكتور، القرامطة والصابئة وأبو حنيفة، وهلم جرا... بل راح هو يسرد لي ويدردش عن أعماله التجارية في الخليج، وعن آرائه في السياسة، وما تحتاجه الدول من إصلاحات وأنا أقضم وأنهش بكباب سليمانية على راحتي. أهز رأسي بالاستحسان والتأييد بين حين وآخر.

«والله يا أستاذ هذي فرصة ما خطرت في بالي أبدا. راح أعود لأهلي وبلدي وأحكي لهم شلون الله جمعني بالأستاذ رشيد الخيون وتعشيت معاه في لندن».

هذا لقاء. وأين هو من لقاء آخر. كنت في حفلة في النادي الثقافي العراقي مع زوجتي وأولادي عندما جاءنا رجل وراح يخاطبني: «تتذكرني يا أستاذ؟ لا يمكن ناسيني! أكيد ما تتذكرني! كنت جالسا قدامك في مقهى كازابلانكا. تتذكر لما كانت وياك واحدة شقراء. تتذكرني؟ بس أحب اسلم عليك»!

قال ذلك أمام زوجتي فرحت أذكرها أن كازابلانكا مقهى كنا نرتاده في أيام التلمذة في الستينات وأغلق وتحول إلى ناد ليلي في السبعينات بعد لجوء الضباط الأحرار لبريطانيا.