الانتصار والانكسار بالأميركان!

TT

في الستينات عرض فيلم مشهور في دور العرض المصرية. عنوان الفيلم «ثورة على السفينة بوينتي». تناقلت وقتها الشخصية الشعبية المصرية التي تميل للنكت والطرف نكتة تقول إن عبد الناصر لما قرأ عنوان الفيلم أسر لمدير العلاقات في مكتبه بأن يرسل برقية تأييد للثوار! الطرفة لاذعة بل مُرة، فيها تهكم سلبي حول استعداد عبد الناصر وقتها لتأييد أي «ثورة» على افتراض من قام بها بالضرورة من وقع عليهم الظلم. الإشكالية أن من ترجم عنوان الفيلم كالعادة اختار ما يناسب المرحلة، فعنوانه الأقرب إلى المعنى الصحيح هو العصيان أو التمرد، لكن كلمة «ثورة» كانت أقرب إلى «هوى» المترجم.

إن عدنا من ذلك الزمن إلى الزمن الحالي، فإننا نجد أن التاريخ يكاد يكرر نفسه، فقد فات على القوى السياسية في منطقتنا العربية الوعي أن المحرك الرئيس للأحداث هو الداخل لا الخارج، وأن ما يأتي من الخارج لا يتعدى الاستنكار اللفظي لا غير.

طرفا الصراع في مصر كلاهما يدعي أن «أميركا» تناصر الفريق الآخر. لا أحتاج هنا إلى ضرب الأمثلة، فأي متابع للإعلام الفضائي أو المكتوب يستطيع أن يسمع ويرى تلك الاتهامات من الجانبين.

الإخوان مواقفهم وشعاراتهم واضحة، في أماكن تجمعهم وفي وسائل الاتصال التابعة لهم، ليس فقط إدانة أميركا لأنها تقف مع «الانقلابيين»، بل يرفعون كل ما يدغدغ عقل المواطن، من شعارات، من «تسقط أميركا» إلى «تسقط إسرائيل». وفي الوقت نفسه يشيد هذا الجانب من مواقف السيناتور جون ماكين ورفيقه إلى درجة القول بأن سياسيي الولايات المتحدة مع حكم محمد مرسي. في الجانب المقابل نرى عددا كبيرا من وسائل الإعلام في مصر وسياسيين يكيلون الاتهامات للولايات المتحدة، بسبب موقفها المناصر لمشروعها الجديد وهو «تمكين الإخوان» من حكم مصر، من أجل إقامة الخلافة من جهة، والصلح الشامل مع إسرائيل من جهة أخرى. وأي متابع حصيف يعرف أن الحقائق تُبتسر، من أجل حشد الأنصار وتشويه سمعة الطرف المناوئ.

هناك اعتقاد عميق في المخيال العربي (وهو تراكم التصورات في ذهن العامة) أن قوة الولايات المتحدة وإرادتها لا تقهران، وهي الفاعلة في الأحداث، وجذرت هذا المخيال وعملت على تعميقه أفلام هوليوود الكثيرة منذ نهاية الحرب العظمى الثانية. تقريبا في كل تلك الأفلام التي تعرضت للحرب مع ألمانيا النازية ظهر الألماني صلفا، قاسيا، غير إنساني، وساذجا في الكثير من الأحيان، وظهرت البطولات الأميركية التي مهما بلغ عددها أو عدتها لا بد منتصرة، ذكية، حيوية، مبتكرة، حتى خلف خطوط العدو.

مثل تلك الأفلام التي تكررت في تصوير اشتباكات وحروب الولايات المتحدة مع العدو، سواء في فيتنام أو كوريا أو العراق أو أي مكان آخر، في الحروب التي خاضتها، كان الانتصار الحتمي فيها للفرقة الأميركية التي يتصف رجالها بالبطولة والمقاومة، حتى في حال سقوط بعضهم أسرى في يد العدو، ورفد هذه الصورة للأميركي الذي لا يقهر في مخيال العربي ما يكتب عن «تدخلات أميركية» في الشأن المحلي تتصف بالكثير من المبالغة.

من كثرة ما شاهد العربي تلك الصور النمطية، ومن كثرة ما تدبره وتخطط له وكالات الاستخبارات الأميركية في أفلام هوليوود وفي بعض المقالات والدراسات، من أنها دائما تتفوق في تخطيطها على خصومها، رسخ في ذهن العربي العادي أن تلك قوة لا تقهر، حتى جماعات «القاعدة»، العدو اللدود (أرى أن قوتها أيضا مبالغ فيها) استمدت أفكارها التدميرية من أفلام هوليوود، فقبل سنوات من «غزوة مانهاتن» (في سبتمبر/ أيلول عام 2001) كان هناك أكثر من فيلم يصور هجوما إرهابيا على تلك المباني التي تنهار!

حقيقة الأمر أن حروب أميركا بعد الحرب العظمى الثانية إما أنها لم تحقق النصر أو أن تلك الحروب لم تحقق أهدافها المعلنة. لمن يريد الاستفادة من هذا الموضوع أحيله إلى كتاب صدر أخيرا مترجما وهو بعنوان «لماذا تحارب الأمم؟»، لمؤلفه ريتشارد نيد ليبو، الذي نشرته «عالم المعرفة» هذا الشهر، فقد وثّق الكتاب فشل الولايات المتحدة في تحقيق الأهداف المبتغاة أو المعلن عنها في حروبها الخمس الأساسية بعد الحرب العالمية الثانية.

قدرة التدخل الأميركي في الأحداث هي أقل بكثير مما اصطحبه المخيال العربي كل هذه العقود، وهو مثقل بالوهم أكثر مما هو قريب إلى الحقيقة. الأمر أن الولايات المتحدة تستفيد من أخطاء يرتكبها الآخرون، كما استفاد «كلارك غيبل» البطل الوسيم، نائب كابتن السفينة بوينتي، وقام بعصيانه في نهاية القرن الثامن عشر، ضد قائد السفينة الصلف، الذي أذاق ضباط السفينة وبحارتها الأمرين، فكان «التمرد»!

في مقالة جون ماكين ورفيقه، التي كتبها بعد عودته إلى الولايات المتحدة من زيارة مصر قبل أسبوعين، ونشرتها جريدتنا هنا، يستطيع المتابع أن يلحظ أسباب تخوف ماكين ورفيقه وآخرين في واشنطن مما يحدث في مصر، فهو لا يحنو على حركة الإخوان وحكمهم، هو فقط يتخوف - إن حرموا من الحكم - أن يتحول الأمر بهم إلى «جماعات جهاد وإرهاب» تنقض على مصالح الولايات المتحدة، وهي مصالح منتشرة، كما يتخوف من الكلفة الباهظة التي يمكن أن يتكبدها الاقتصاد الأميركي إن حدث اضطراب في المنطقة، بصرف النظر عمن يحكم.

ومن هذا الجانب جاء حنو مكين، ولم يكن خوفا على الديمقراطية أو تشبثا بآلياتها. حقيقة الأمر أن مكاتب التحليل في واشنطن تخضع إلى تيارات الضغط والمصالح، وتبني على تلك الأفكار مواقف، أكثر مما تنظر إلى الحقائق على الأرض أو مصالح الشعوب.

هذه المنطقة جُل من فيها مسلمون، وعلى حد قول ناشطة تونسية شجاعة أعلنت «نحن مسلمون قبل وأثناء وبعد حركة النهضة»، وهو قول ينطبق تماما على حركة «الإخوان» في مصر. المعضلة هي الضياع في الزمان، فتلبيس السياسة لباس الإسلام، والاستحواذ على عقيدة المسلمين جميعا وجعلها خاصة بفئة قليلة من البشر تساعدها على الحكم، يكمن الخطأ الفادح فيه أنه ضد العصر بامتياز وضد السياسة بمعناها العملي، كما أن الافتراض الأميركي، أنه إما حكم الإسلام السياسي أو الفوضى الإرهابية، أيضا خارج التصور العقلاني.

كان الحديث عن الصدام بين الإسلام السياسي والدولة المدنية حديثا مبكرا لكثير من المعلقين المستقلين. ورغم أنني أكره أن أعيد ما كتبت فإنني أذكّر القارئ بمقال كتبته ونشر هنا في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2012، إحدى فقراته تقول «سقطت حكومات ذات شكيمة، بسبب نقص في الحريات، وانهارت إمبراطوريات بذلك السبب، وفشلت تجارب، فقط لأنها أسقطت فكرة (الحرية) بمعناها الشامل والحديث من حسابها. وإذا وضعت كل ذلك على خلفية «الإخوان» سوف تجد أن تاريخهم السابق والطويل لم يأبه بالعناية بالحريات، لا في داخل التنظيم نفسه ولا في النظر إلى الأغيار المخالفين».. وكان رأيي وآخرين أنه مشروع متكئ على غيبيات لا محتوى سياسي له، وكغيره متوقع أن يسقط، وقد سقط في مصر، ولا بد أن يسقط في أماكن أخرى!

إذن كان فشل الحكم الإخواني في مصر مكتوبا بأحرف كبيرة على الحائط، لكل من يريد أن يرى، وما موقف الولايات المتحدة، في كل الأمور، إلا المستفيد من الأخطاء والمحافظ ما أمكن على المصالح، فأميركا ليست مع أحد، هي فقط مع مصالحها.

آخر الكلام:

الأربعاء الماضي بدأ فض الاعتصام في مصر، وهو له ما بعده، فعناد «الإخوان» يقربهم من الخروج من المعادلة السياسية التي لم يحسنوا فهمها، وكان ذلك طبيعيا بسبب ما جبلوا عليه من فكر سياسي جامد!