بانتظار «سايكس بيكو» أميركي ـ روسي

TT

وطن جاء استقلاله عن الدولة المنتدبة عليه حصيلة تسوية طائفية لا فعل إرادة «قومية» خالصة، لا يصح أن يسمى وطنا لكل أبنائه.

في أحسن الحالات ما ورثه اللبنانيون من استقلالهم عن الانتداب الفرنسي عام 1943 لم يكن وطنا بل مشروع دولة لم يحسنوا إدارتها على مر سنوات الاستقلال وتغير العهود، فظل وضعها يراوح بين الدولة العشائرية والدولة الفاشلة - وهو وضع كرسته بنفسها باعتمادها شعار «لا غالب ولا مغلوب» في مواجهة التحديات السياسية لهيبتها والأمنية لوجودها.

ولكن ما بدا في سنوات الاستقلال الأولى قصورا في إقامة الدولة القادرة والجامعة - مراعاة للمحسوبيات السياسية والحزبية بالدرجة الأولى - تحول في العقدين الأخيرين إلى عمليات إحباط متواصلة لقيام أي شكل من أشكال الدولة العصرية في لبنان، مما يبرر الاستنتاج بأن المقصود منها ترك اللبنانيين بلا وطن ولا دولة معا في وقت يمر فيه المشرق العربي بمخاض سياسي وأمني عسير.

ربما لم يعد واردا في ذهن اللبنانيين أن يتساءلوا لمصلحة من يجري هذا التآكل المتواصل - والمتعمد على الأرجح - لهيبة الدولة وسمعتها بعد أن روضوا على القبول بالأمر الواقع واعتادوا التعايش معه.

ولكن، في ظل الظروف الإقليمية الدقيقة التي تعيشها المنطقة يثير إمعان البعض في تحدي ما تبقى من سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها، تساؤلا مريبا عما إذا كان ذلك فصلا آخر من فصول استغلال قصور اللبنانيين في إقامة دولة عصرية سيدة وقادرة، أم فصلا مفروضا عليهم يندرج، على المدى البعيد، في خانة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بأكمله. غير خافٍ على اللبنانيين أن تحدي البعض للدولة، وخصوصا البعض المسلح، يجري بـ«حماية» إقليمية، إن لم يكن بتوجيه إقليمي.

بسؤال أكثر وضوحا: هل يمكن فصل ما يجري في لبنان من «تذويب» لمقومات الدولة وتفريغ لمؤسساتها عما يجري على ساحة كيانات «سايكس - بيكو» الجغرافية، بدءا بالعراق وانتهاء بسوريا.. ومرورا بفلسطين؟

على خلفية ما يحدث في المشرق العربي، تصح تسمية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين عقد فشل اتفاقات «سايكس - بيكو» في إقامة دول قابلة للحياة، الأمر الذي بات يستدعي، بمنطق «جيوبوليتي» واقعي، استبدال كيانات عرقية ومذهبية بكيانات «سايكس - بيكو» «الوطنية» الوجه، كما يبدو من بوادرها الأولية.

وإذا كان يصح اعتبار العراق «نموذجا» لكيانات الشرق الأوسط البديلة، والخطوط الراهنة للجبهات العسكرية في سوريا مؤشرا على احتمال أن تكون بلاد الشام الساحة المقبلة للكيانات العرقية والمذهبية النامية، فإن السابقة المتوقعة على هذا الصعيد قد تأتي من الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية. على هذا الصعيد تبدو عودة الإسرائيليين المفاجئة إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين، بدعم أميركي حثيث، مؤشرا أوليا لصورة «الشرق الأوسط الجديد»، إذ يصعب فصل أي موافقة إسرائيلية على إعادة ترسيم حدود الدولة الفلسطينية المقترحة عن المناخ العام السائد حاليا في المنطقة، خصوصا أنها تجري بمباركة أميركية رسمية.

باختصار، خريطة الشرق الأوسط بأكمله تبدو مرشحة لإعادة نظر جغرافية يصعب أن تتجاهل الأمر الواقع على أرض المنطقة أو أن تتجاوز الردات المذهبية والعرقية لشعوبها.. فهل يمكن استثناء الكيان السياسي الأضعف في الشرق الأوسط، أي لبنان، من عملية «إعادة النظر» هذه؟ إلا أن المقلق أن إرجاء عقد مؤتمر «جنيف - 2» لتسوية الحالة السورية إلى أجل غير مسمى يوحي بأن خريطة «الشرق الأوسط الجديد» لم تعد حكرا على الأميركيين بل رهينة صفقة أميركية - روسية ثنائية منذ أن نجحت روسيا في تقديم أوراق اعتمادها كدولة نافذة في المنطقة عبر دعمها السياسي والتسليحي لنظام بشار الأسد. وإذا كان تأجيل «جنيف - 2» يرجح الاحتمال القائل إن تفاصيل صفقة الشرق الأوسط الأميركية - الروسية لا تزال قيد التجاذب بين الدولتين، فإن التدهور الأخير في العلاقات الشخصية بين الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين لا يبشر باتفاق قريب.

وعليه، وبانتظار «سايكس - بيكو» الأميركي - الروسي، سيبقى الشرق الأوسط المنطقة الوحيدة الملتهبة في عالم اليوم.