مدن الصيف : جاري ليس من حراس عدي

TT

أول مرة سافرت إلى قرطبة كانت في الثمانينات، بدعوة من الأمين العام لمجلس التعاون الأستاذ عبد الله بشارة، للمشاركة في ملتقى حول عبد الرحمن الداخل. كانت الرحلة من مطار «غاتويك الريفي» لا «هيثرو» الذي اعتدت عليه. تطلعت إلى جاري في الطائرة قبل الجلوس فوجدت رجلا ضخم الأنف ضخم الوجه ضخم الشاربين، عرضا وارتفاعا. خيل إليّ أنه مسافر من العراق وعامل في حرس عدي صدام وتخايل لي أن الزملاء الذين كانوا يتولون إبلاغ «وزارة الثقافة» العراقية عن تحركاتي، الحقيقية والمتخلية، قد أبلغوا غرفة الحراسة العدوية، بأمر الملتقى في قرطبة. جلست طوال الطريق أتظاهر بقراءة الصحف وأرى بطرف عيني رئيس فرع الصدم في فرقة الحرس. هبطت الطائرة فقلت الآن يذهب كل منا في طريقه. لكن رفيق الرحلة أصر على أخذ طريقي. صعدت في الباص للذهاب إلى المدينة، فوجدته مستريحا إلى جانبي. هو وشارباه. ابتلعت ريقي، أو ما ترسب منه، ورددت ما يكتبه سائقو الحافلات على واجهات باصاتهم: سيري والرب راعيك! وما إن بدأت في السير نحو أبهى بقاع العمران، حتى تنحنح جاري علامة أنه يريد أن يفتح محادثة. بحثت عن صحيفة أتصنع قراءتها فلم أجد. حاولت التطلع من النافذة فوجدت النافذة إلى صوبه. فتحت حقيبة يدي أبحث عن كتاب فلم أجد سوى أدوات حلاقة. وقلت في نفسي، رحمك الله يا طارق يا بن زياد، يا من أسس لهذه الرحلة. ورحت أنتظر أن ينتهي رفيق الرحلة من تنحنحه ويبدأ الحديث. وكان الجار مباشرا والحمد لله: الأخ فلان؟ قلت، حتى اللحظة. قال بكل أدب: أحاول أن أعرفك بنفسي منذ إقلاعنا من «غاتويك». قلت: عساه خيرا. قال: أخوكم رئيس غرفة التجارة في البحرين.

نفخت أنفي لكي أتأكد من سمعي، فأكمل: يبدو أننا نلبي دعوة واحدة. قلت أليس الأخ من بغداد ومن الكاظمية من تكريت؟ قال: أبدا. رئيس غرفة التجارة في المنامة. وانفجرت ضاحكا. ورويت له ما لم يكن يعرفه من مسار الرحلة، ووصلنا إلى قرطبة فرويتها لجميع المدعوين، محملا المسؤولية دائما لشاربي الرفيق العزيز. ورحت أستعرض الحضور لأرى إن كان بينهم من سيتولى نقل الخبر إلى «وزارة الثقافة» العراقية. فقد عاش صبيانها ونساؤها من مواطني الأعزاء سنوات يخبرون شتى الأخبار، لسبب لا يغتفر، وهو رفض الانضمام إلى لائحة الصف الوطني المؤمن بأفكار ومشاريع السيد الرئيس.

بعد سنوات كان الأستاذ البزاز يروي لنا ذكرياته في جلسة عامة عن يوم كان مندوب الإعلام العراقي في لندن. وقال إن وزيرا اتصل به وقال له كرر المحاولة مع فلان ووسع العرض. وروى أنه في اليوم التالي اتصل به نائب رئيس الوزراء طارق عزيز، وقال له: لا تخربوها مع فلان. انسوه.

بالفعل نساني جميع الملحقين الذين جاءوا بعد البزاز. لكن لم ينسني المواطنون والمواطنات الذين كان عليهم أن يملأوا استمارات عن مؤامراتي اليومية على عودة الإمبراطورية العباسية. لا أعرف كيف يشعرون اليوم عندما يمر اسمي في خواطرهم. إلى اللقاء.