نصف الحقيقة!!

TT

في الماضي أعني قبل نحو ربع قرن كان العرب عندما يريدون التأكد من صحة خبر ينسبونه حتى لو لم يذع عبر أثيرها لإذاعة الـ«بي بي سي» البريطانية الناطقة بالعربية، فلقد كانت عنوانا للحقيقة، في عصر ما قبل الفضائيات كانت الدولة في عالمنا العربي مسيطرة بقبضة من حديد على كل منافذ الأخبار، وهكذا كان الجميع يحاولون ضبط موجات الإذاعة البريطانية التي كثيرا ما تعرضت للتشويش بتلك الصفارة التي تصاحب موجتها، المؤكد يتذكر الصفارة اللعينة من هم الآن فوق الأربعين.

هل لدينا الآن قنوات أو محطة بما فيها الـ«بي بي سي» لديها هذه المصداقية المطلقة؟ الإجابة مع الأسف لا، راجعوا فقط ما الذي حدث أخيرا في مصر بعد فض اعتصامي «رابعة» و«النهضة»، القنوات المصرية الخاصة والرسمية تقدم نصف الحقيقة، نرى الجنود وهم يساعدون الكبار والأطفال والعجائز والسيدات لحمايتهم وفي مشاهد أخرى تقدم إليهم المياه والغذاء، ثم نتابع المجزرة التي راح ضحيتها مأمور قسم كرداسة وقتل 18 ضابطا وجنديا وتم التمثيل بجثثهم من قبل الجماعات الإرهابية، إلا أن ما رأيناه ليس كل الحقيقة، حيث إن هناك عددا ضخما من القتلى والجرحى من معتصمي «رابعة» في مستشفى ملحق بالجامع والأرقام الرسمية التي تصدر عن وزارة الصحة المصرية لا يتجاوز مائتي قتيل بما فيهم رجال الشرطة بينما الأخبار التي يصدرها «الإخوان» تؤكد تجاوز الرقم الألف. هذه التفاصيل وغيرها تجدها متوفرة على شاشة قناة «الجزيرة» العامة أو «الجزيرة مباشر»، نرى أيضا على «الجزيرة» اتهام للشرطة بالإفراط في استخدام القوة، بينما القنوات الخاصة والرسمية المصرية تؤكد أنها تواجه الإرهاب المسلح، الجميع يقول شيء ويخفي شيئا أو على الأقل يشير إليه باستحياء.

قنوات تلفزيونية مثل «بي بي سي»، والـ«سي إن إن» أيضا متهمة من قبل الدولة بأنها لا تقدم الحقيقة وتنحاز للتيار الديني وتعادي السلطة القائمة.

اللافت أن القنوات الخاصة والرسمية في مصر أصبحت تردد نفس النغمة تقريبا، تابع مثلا موقفهم حيال استقالة د. محمد البرادعي وكيف أن الجميع انهال على الرجل بالشتائم والتخوين والشائعات، البعض طالب بسحب جواز سفره المصري، على الجانب الآخر احتفت بالطبع القنوات - التي توصف تصريحا وتلميحا بالمعادية - بالاستقالة التي أوضح فيها الرجل أن ضميره يرفض إراقة أي دماء مصرية.

أخيرا اتفقت القنوات الداعمة للنظام المصري على منع عرض الدراما التركية على موجاتها ورغم سذاجة الحجة، حيث اعتبروا أنهم يردون على أردوغان سياسيا بمقاطعة مهند وفاطمة ولميس وفاتهم أن هذا القرار الذي هلل له بعض الإعلاميين سيسقط ويتحول إلى مادة للتندر.

الاتجاه الآن إلى إغلاق قناة «الجزيرة» وسوف يتم التسويق لهذا القرار على اعتبار أنه مطلب شعبي، قد يصدر أمرا بإغلاق مكتبها بالقاهرة قبل أن تقرأ هذه الكلمات، فهل معنى ذلك أن «الجزيرة» سوف تكف عن تناول الشأن المصري؟ وهل من الممكن أن يمتد الأمر إلى «سي إن إن»، و«بي بي سي» أم أن هناك حتى في المصادرة «خيار وفاقوس»، على الجانب الآخر يجب أن نذكر بأن قدرة الدولة على المنع بفعل الفضاء المفتوح في هذا الزمن باتت من الناحية الهندسية مستحيلة.

ويبقى المشاهد العربي حائرا في محاولة العثور على معلومة موثقة، عليه أن يقلب بين مختلف هذه القنوات ويضع المادة في خلاط ويضربها ويتجرع هذه الخلطة، بعدها أيضا لن يتذوق طعم الحقيقة الخالصة، ولكن كما يقول المثل الشعبي «نصف العمى ولا العمى كله»!