ضرورات واقع مصر تسبق حلم الطائرة الورقية

TT

في السابع من يوليو (تموز) الماضي، بعد أربعة أيام من عزل الرئيس محمد مرسي، نشرت «الأوبزيرفر» اللندنية لوحة لرسامها ريديل (RIDDELL) بطلها ضابط «جعل له بعضا من ملامح جمال عبد الناصر» وقد سدد بيمناه لكمة طوحت بجسم الإسلام السياسي وهراوته في الهواء، فيما تعلقت بيسراه صبية ترمز إلى العلمانية أنطقها الرسام ما يلي: «إنه فقط انقلاب، إذا هو (الضابط) لم يعد للصندوق». في عدد الأحد الماضي، حرر ريديل الضابط من كل الضوابط؛ صبغ قبعته بالأحمر، أسال الدم من أنيابه إلى مخالبه، وأنزل العلمانية عن ذراعه، فراحت تنظر مذعورة إلى الخصم المشترك (الإخوان المسلمين) فيما هو يزأر: ماذا الآن؟

بالفعل، بين ما بدأ يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011، وصولا إلى 30 يونيو (حزيران) 2013، ثم 3 يوليو، إلى الآن، السؤال: «ماذا الآن» جائز، بل ثمة ضرورة للسؤال: إلى أين من هنا، ليس في مصر وحدها، وإنما حيثما وعد العرب بربيع لم يزهر كما تخيل عشرات الملايين منهم، أو تمنوا، وربما الأصح أنهم توهموا، فتاهوا.

لكن، حيث يتعلق الأمر بمصر تحديدا، الأرجح أن التيه استبعد الآن، أو أنه لم يعد واردا. يمكنني القول إنني من أصحاب رأي يأخذ به كثيرون، خلاصته أن حسم مآل الحكم لصالح حاكم قوي يستند إلى تفويض أغلبية شعبية، هو مسألة وقت. الترتيب لذلك جارٍ وفق تمهيد تضمنته خريطة الطريق. في هذا السياق، يندرج بيان رئاسة الجمهورية (الثلاثاء 20 الحالي) المتضمن انتهاء المرحلة الأولى من الاستحقاق الدستوري. أكد البيان التقيد بالجدول الزمني، إذ إن «لجنة الخبراء المشكَّلة وفقا للمادة (28) من الإعلان الدستوري أتمت مهمتها الأولى بالانتهاء من التعديلات المقترحة على دستور 2012 المعطل، يوم الثلاثاء 20 / 8 / 2013، وفى خلال الثلاثين يوما من تاريخ تشكيلها المنصوص عليها في الإعلان الدستوري». هذه إشارة بالغة الأهمية، تبعها التنويه أن «المرحلة الثانية من الاستحقاق الدستوري في خارطة المستقبل، بدأت بالتوازي مع المرحلة الأولى منذ نحو عشرة أيام، حيث أعلنت معايير عضوية واختيار (لجنة الخمسين)، الممثلة لفئات المجتمع المصري وطوائفه وتنوعه السكاني» ثم تذكير بتواريخ محددة، ربطت «بإرادة شعبنا الكريم»، إذ إنها تجلت في «الثلاثين من يونيه»، و«تأكدت في الثالث والسادس والعشرين من يوليو 2013»، مما يعني المضي «قدما في تحقيق الخطوتين التاليتين من الاستحقاق الديمقراطي لخارطة المستقبل، وفى الأطر الزمنية الواردة في المادة (30) من الإعلان الدستوري فيما يخص الانتخابات البرلمانية والرئاسية».

المشهد واضح؛ دستور جديد، انتخابات برلمانية، ثم رئاسية، أو... احتمال أن يحصل العكس. ثمة اتجاه قوي يفضل استباق الانتخابات البرلمانية بانتخاب رئيس يفوز بأغلبية شعبية كاسحة تجمع أطياف المجتمع المصري كافة. أقوى المرشحين، لملء ذلك الموقع، رغم أنه هو ذاته يصر على استبعاد نفسه، هو الفريق أول عبد الفتاح السيسي. كما هو معروف، في ظل مناخ سياسي محدد، تتاح فرص إذا سمح لها أن تضيع، فالأرجح ألا تتكرر. توظيف الفرصة المعنية هنا من جانب رجل يستقطب تأييد أغلبية شعبه بقبول الترشح للرئاسة واجب، بل إن فيه تضحية بقدر كبير من خصوصية الحياة الأسرية وبساطتها، ومن ثم المغامرة بركوب خطر السلطة ومتاعبها.

بالطبع، سيطلق الديمقراطيون والليبراليون العرب، وأحسبني منهم، تنهيدات الحسرة وزفرات التوجع، وقد يمارس بعضنا بعض طقوس كربلائيات «ليت اللي جرى ما كان»، إنما أعتقد أن من الشجاعة الإقرار أن ما بين نخب العرب السياسية والفكرية، وما بين عموم الناس، مسافات شاسعة.

لا جدال أن لوحة ريديل في «الأوبزيرفر»، وربما عشرات مثله في صحف العالم شرقا وغربا، تمثل وجهة نظر لها حضورها المعتبر في أوساط النخبة، لكنها على الأرجح ليست بذات أهمية بين عموم ملايين الناس. بكلام أكثر مباشرة، يمكن القول إن النخب تستطيع أن تأكل وتشرب من بيزنطية ما يحلو لها من جدل التنظير السياسي حتى تشبع، إن شبعت، لكن ذلك لن يسمن ولن يغني من جوع ملايين الأفواه، وليس في مصر وحدها، وبالمناسبة، التذكير بأن الناس معنيون بمعيشة مستورة، وأن توفر رغيف الخبز يهمهم، كما تعنيهم نظافة شربة الماء، ليس فيه ما يعيب أو ينتقص من كرامة البشر، بل إن أول حقوق المواطن وأهمها، الحياة الآمنة، وما معنى الأمن، بل أين هو، بلا تأمين أبسط مقومات معيشة كل يوم من دون إذلال وجرجرة هنا وهناك؟ هذه «المعايرة» واحدة من علل نخب عربية نظرت للناس من عل فتعالت على الواقع. بل بين تلك النخب من ساوى بين حق الموظف في الراتب وبين «التسول»، ثم إن الأدهى من ذلك كله، أن يوصف شعب بأكمله بـ«الشحاذين» (!) من جانب نخبويين زعموا أنهم مهمومون بمستقبل أفضل لذلك الشعب ذاته.

ما علاقة ما سبق بسؤال: إلى أين من هنا؟ جواب: فشل النخبوية. لقد تسلم الإخوان المسلمون حكم مصر مرورا بصندوق الاقتراع، فماذا حصل؟ علوا أنفسهم على غيرهم. تعالى زعماؤهم عن إشراك ممثلين لتيارات مغايرة في المجتمع، لعلهم اعتبروا ذلك نوعا من الشرك، أخذوا بمنهج الإقصاء، زكوا أنفسهم، كأن لسان حالهم كان يقول إنهم نخبة النخبة، صفوة الصفوة، فما الداعي لتلبية أية دعوة تخالف دعوتهم. بالطبع، ها هي النتيجة أمامهم وأمام الجمع العربي كله. قد يقال، لقد حكموا من قبل، ولا يزالون، في السودان، وغزة، وأنقرة، وتونس، فلمَ الانهيار السريع في مصر؟ ليس بعصيٍ الجواب على كل ملم بأبسط أسس جغرافيا الشرق الأوسط السياسية. مصر غيرها عن غيرها. الدين، والحاكم، والشعب، مثلث حكمته، منذ آلاف السنين، شروط مختلفة عند المصريين عنها عند غيرهم من شعوب المنطقة وحضاراتها. من العجيب أن عقل جماعة الإخوان أغفل ذلك، فكان ما كان.

بيد أن الموضوعية تقتضي تأكيد أن نخبوية تجربة الإخوان في الحكم، القصيرة في مصر، والمتواصلة في غيرها، لم تأتِ من فراغ، ما هي بنبت شيطاني في صحارى الأحزاب العربية، وبالتأكيد ليست تفردا غير مسبوق في العالم العربي. لقد حكمت أحزاب قومية/ علمانية أكثر من بلد، وحكم الشيوعيون في العراق والشطر الجنوبي من اليمن، فنصبت مشانق وارتكبت مجازر، سال دم الرفاق تحت سقف الحزب الأوحد، وجرت دماء خصومهم في الشوارع، وأطلق حركيون النار من بنادق الأخوة داخل زقاق الحركة ذاتها، وطاردوا إخوة آخرين في أزقة مدن ومخيمات، أما زعماء قبائل اليسار العربي فكم سلقوا بعضهم بألسنة حداد، أدخلوا نفرا منهم «جنة» لينين أو «جحيم» ماو حينا، و«جهنم» تروتسكي و«جنان» ماركس أحيانا. المعادلة، في نهاية النهار، سهلة: عصبية الأدلجة + نخبوية الفئة = تجربة محكومة بالانهيار.

أما حلم الديمقراطية، فيمكن أن يحلق كما طائرة خالد حسيني الورقية في روابي أفغانستان. فيروز والرحابنة سبقوا صاحب «الكايت رنر»، فغنوا لطيارة ذات ورق وخيطان. ثمة صبي فوق أحد أسطح غزة، على شاطئ بتونس، ربما قرب جبال أطلس، أو رفقة طيور ميناء عدن، بجوار جثث متفحمة ببغداد، أو حيث تلتقي الحولة بالجولان، حيثما الشوق قائم ينادي على ديمقراطية نقية من تعالي النخبوية، ثمة صبي سيظل يحلم ويسابق المستحيل ولو بخيوط طائرة ورقية.

[email protected]