إدارة فاشلة أم دولة ذاهبة إلى الفشل؟!

TT

ربما أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يدرك لا في سنوات ولايته الأولى ولا في ما انقضى من ولايته الثانية.. وحتى الآن ورغم تقارير مخابراته واستخباراته ورغم تحذيرات ونصائح أصدقاء دولته وبلاده والكثير منهم من العرب، أن مكانة الولايات المتحدة الدولية لم تصل على مدى تاريخها الطويل وعمرها المديد إلى ما وصلت إليه من تردٍ وتراجع وتقزم في عهده غير الميمون، حيث إن صورتها لم تصل إلى كل هذا التشوه والاهتزاز في العالم بأسره إن على مستوى الشعوب أو على مستوى الدول والأنظمة، كما وصلت إليه في الأعوام الخمسة الأخيرة!

حتى في عهدي بوش الأب وبوش الابن، فإن الولايات المتحدة لم تصل إلى حالة الهوان والتراجع التي وصلت إليها وهي بقيت القوة الأكبر والأعظم في العالم كله وكانت باعتبارها قائد هذا العالم، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا واستخباريا، هي صاحبة الحول والطول في الكرة الأرضية بأسرها، وكانت روسيا حتى بمؤازرة أوروبا لا تستطيع أن ترفع رأسها وتملي شروطها في أي قضية دولية.. فالرأي كان لواشنطن والإدارة الأميركية أولا وأخيرا.

عندما جاء باراك أوباما، هذا الشاب «الأبانوسي»! إلى الحكم، استقبل بالمراهنة على أنه سيفعل ما لم يفعله كل الذين سبقوه، حتى بما في ذلك الرئيس دوايت أيزنهاور الذي بموقفه الشجاع خلال أزمة السويس المعروفة عام 1956 قد عزز مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية وقد أضعف حتى حدود التلاشي التأثير الأوروبي في هذه المنطقة، لكن هذا الرهان ما لبث أن أخذ بالتلاشي إلى حد أن الناس العاديين، ليس هنا في منطقتنا الشرق أوسطية فقط بل وفي العالم بأسره، قد ترسخت لديهم قناعة بأن هذه الإدارة «الأوبامية» هي أسوأ إدارة أميركية على الإطلاق، وأنه إن لم يجرِ تدارك الأمور وبسرعة فإن أميركا، هذه الدولة العملاقة، قد تصبح في عيون حتى أصدقائها، دولة مترددة وفاشلة وأنها قد استدرجت بسياساتها الخرقاء الدول المناوئة والمنافسة استدراجا لتستأسد عليها ولتجبرها على التراجع بعدما خسرت موقع الرقم الرئيس في المعادلة الدولية.

قبل أن يأتي باراك أوباما إلى البيت الأبيض ويصبح سيده، كان ثقل روسيا في «اللعبة» الدولية ليس أكثر كثيرا من ثقل إحدى ما يسمى «جمهوريات الموز» المختبئة في زاوية مظلمة من أميركا اللاتينية، وكانت الصين رغم انطلاقتها الاقتصادية التي تشبه انطلاقة سهم من قوس مشدودة الوتر تحسب ألف حساب قبل أن ترفع رأسها إن في مجلس الأمن أو في غيره من منتديات صنع القرار الكوني في العالم بأسره، وكانت أوروبا الشرقية كلها ومعها معظم دول أفريقيا إن ليس كلها والعديد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق الإسلامية، مجالا حيويا للولايات المتحدة، وكانت دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، تشكل مجرد أجرام صغيرة تدور حول أميركا التي بدءا بمطلع تسعينات القرن الماضي وانهيار المنظومة الاشتراكية أصبحت فعلا وحقيقة الرقم الرئيس في المعادلة الكونية.

صحيح أن بعض الرؤساء الأميركيين الذين سبقوا باراك أوباما إلى البيت الأبيض قد وقعوا في أخطاء كبيرة لكنها لم تكن قاتلة، ومن بين هؤلاء جيمي كارتر ورونالد ريغان نفسه وقبل ذلك ريتشارد نيكسون، لكن بالمحصلة العامة فإن سهم الولايات المتحدة بقي في حالة صعود مستمر، وأن صورتها لم تصل إلى كل هذا الاهتزاز الذي وصلت إليه حتى بعد هزيمتها المنكرة في فيتنام وحتى بعد فشل غزوها البائس لكوبا في عام 1961 وحتى بعد كارثة صحراء «لوط» العسكرية التي كانت بمثابة فشل ذريع في إنقاذ الرهائن الأميركيين الذين جرى احتجازهم في سفارة بلدهم في طهران بعد انتصار الثورة الخمينية مباشرة.

وهكذا، فقد كانت أول الأخطاء القاتلة التي وقع فيها باراك أوباما أنه بادر إلى انسحاب عسكري كيفي من العراق، أثبتت الأيام أنه كان بمستوى انسحاب الجيوش الأميركية من فيتنام بعد تلك الهزيمة التاريخية «الاستراتيجية» الكاسحة والقاصمة للظهر فعلا، وأنه ترك بلدا، يشكل إحدى الحلقات الرئيسة في السلسلة الشرق أوسطية، للتمدد الإيراني وللمخابرات الإيرانية ولكل هذا العنف والضياع والتمزق وهذه الحرب الطائفية القذرة المحتدمة الآن، وذلك في حين أنه كان بإمكانه ألا يبادر إلى انسحاب عاجل ثبت أنه أسوأ من الهزيمة وأنه كان عليه أن يتريث إلى أن تقف الدولة العراقية على قدميها وتتخلص من تغلغل الإيرانيين في كل مفاصلها كما هو عليه الوضع الآن، حيث أصبحت بلاد الرافدين مثابة لقفز «آيات الله» بتطلعاتهم التوسعية إلى الدول المجاورة وإلى ما هو أبعد كثيرا من الدول المجاورة.

لقد كان بإمكان أوباما ألا يبادر إلى الخروج العسكري والسياسي والأمني من العراق هرولة ويترك هذه الدولة ذات الأبعاد والإمكانات الاستراتيجية للهيمنة الإيرانية وعلى ما هو واقع الحال الآن، وكان عليه أن يبقي على بعض الوجود العسكري في إقليم كردستان على الأقل ليكون بمثابة قاعدة متقدمة وبمثابة برج مراقبة أمامي لمنع الإيرانيين من أن يفعلوا في هذا البلد ما يفعلونه الآن وليحول دون وصولهم إلى سوريا ودون تمددهم الزاحف في الشرق الأوسط كله.

لكن أوباما، الضعيف والمرتبك والذي ثبت أنه يفتقر إلى النظرة الاستراتيجية، لم يفعل هذا، بل إنه، لعدم إدراكه لمكانة سوريا ولأهمية دورها في هذه المنطقة، تعامل مع الأزمة السورية بطريقة مثيرة للتساؤلات وأيضا للشبهات، فالتردد المستمر إزاء هذه الأزمة هو الذي أوصل الأوضاع إلى ما أصبحت عليه، وهو الذي جعل روسيا صاحبة حول وطول إن في الشرق الأوسط أو في العالم كله، وهو الذي جعل الأوروبيين أكثر جرأة في الابتعاد عن الولايات المتحدة، وهو الذي جعل نجم فلاديمير بوتين يرتفع كل هذا الارتفاع، وهو الذي جعل مجموعة تحالف «البريكس»، البرازيل وأفريقيا الجنوبية والصين والهند وروسيا الاتحادية، تختطف مجلس الأمن الدولي وتشكل رقما أكثر تأثيرا من الرقم الأميركي في المعادلة الدولية.

لقد فشل باراك أوباما وإدارته فشلا ذريعا في إحراز أي تقدم بالنسبة للقضية الفلسطينية التي كان قد وعد بحلها الحل المقبول في خطابه الشهير في جامعة القاهرة عام 2009، ولقد فشل هو وإدارته أيضا في أميركا اللاتينية وفي أفريقيا وفي كل مناطق البؤر المتوترة في العالم كله، وكل هذا جعل كثيرين يسألون ويتساءلون عما إذا كانت هذه الإدارة «الأوبامية» هي الفاشلة أم أن الولايات المتحدة خلال ولاية هذا الرئيس الضعيف والمتردد والذي يفتقر إلى النظرة الاستراتيجية البعيدة قد أصبحت تضع أقدامها على بداية طريق الفشل، وأنه إن لم تكن هناك صحوة سريعة فإن هذه الدولة العملاقة ستسير على الطريق نفسه الذي سار عليه الاتحاد السوفياتي والذي سارت عليه بريطانيا، تلك الإمبراطورية التي لم تكن تغيب الشمس عن أملاكها، وقد تصبح، أي أميركا، بالنتيجة دولة فاشلة.

إن هذا ما فعله باراك أوباما وما فعلته إدارته التي رغم محاولات «ترقيعها» في الآونة الأخيرة، فإن الأميركيين أنفسهم، ومن بينهم بعض الديمقراطيين، باتوا لا يشعرون فقط بل ويعترفون بأنها فاشلة، وهنا فإن ما يعزز هذا الاستنتاج هو هذه الطريقة البائسة التي لا يزال الرئيس الأميركي يتعامل بها مع الأزمة المصرية، فالمعروف أنه كان، بينما هو يدافع الآن كل هذا الدفاع المستميت عن الرئيس المخلوع محمد مرسي وعن الإخوان المسلمين، يظهر في اليوم الواحد مرات عدة ليطالب حسني مبارك، وبلغة الأمر وليس بلغة المناشدة، بالتنحي الفوري وبالمغادرة.

إن باراك أوباما بحرصه المبالغ فيه على محمد مرسي وعلى الانتخابات الرئاسية التي جاءت به ربما لا يعرف أن أدولف هتلر قد جاء إلى «الرايخ» ثم إلى رئاسة الدولة الألمانية من خلال انتخابات هي بالتأكيد أكثر نزاهة من الانتخابات المصرية التي جاءت بالإخوان المسلمين إلى الحكم.. وإنه، أي الرئيس الأميركي، ربما لا يزال لا يعرف أن وزير خارجيته جون كيري قد قال في آخر زيارة إلى القاهرة إن «حركة الجيش» قد حالت دون انقلاب على الديمقراطية المصرية.