دبلوماسية «الأمر الواقع»

TT

أن تتصدى الولايات المتحدة نفسها، شريك تركيا الأكبر في حلف شمال الأطلسي، لاتهام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان انتفاضة المصريين على حكم «الإخوان المسلمين» بأنه تم «بمساهمة» إسرائيلية. وأن يصل استنكار واشنطن لتصريح حليفها الموثوق حد نعته «بالمهين»... حدث يكشف فشل دبلوماسية الأمر الواقع التي يمارسها الغرب حيال دول الشرق الأوسط بقدر ما يكشف مرارة فقدان حزب العدالة والتنمية التركي لمشروع شريك إسلامي آخر في المنطقة.

قد يكون دعم الجيش المصري للانتفاضة الشعبية على الأوتوقراطية الإخوانية في مصر مصدر قلق خفي في رؤية رئيس الحكومة التركية إلى الوضع المصري، فحزب العدالة والتنمية ما زال يتوجس من «علمانية» الجيش التركي المتجذرة في صفوف ضباطه منذ عهد كمال أتاتورك. وربما ازداد هذا التوجس حدة بعد مظاهرات ساحة تقسيم في إسطنبول، في يونيو (حزيران) الماضي، التي كشفت حجم معارضة الشارع التركي لحكم حزب العدالة والتنمية.

آنذاك لم تتردد أنقرة في اتهام ألمانيا بالوقوف وراء أحداث ساحة تقسيم وفي انتقاد موقف البرلمان الأوروبي منها.

وهنا تبرز المفارقة في المقاربات الدبلوماسية الأوروبية لشؤون الشرق الأوسط، ففيما ترفض الدول الأوروبية، حتى الآن، قبول عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي - انطلاقا من خلفيتها الدينية الإسلامية - تلتقي معها على مناهضة الحكم المدني في مصر وشجب الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين».

ولكن، ما هو سر هذا «الإعجاب» الأوروبي المستجد - ولا نقول المفاجئ - بـ«الإسلام الإخواني» ودوله الأبعد سياسيا عن مفاهيمه الآيديولوجية والأوتوقراطية؟ وإذا كان احترام الحريات الفردية مؤشر «الرضا» الغربي على الأنظمة الخارجية، فبأي منظور ديمقراطي يفسر الغرب، وإعلامه المنحاز إلى توجهات عواصمه، إحراق «الإخوان المسلمين» للكنائس في عدة مناطق مصرية واغتيال «الجهاديين» للجنود المصريين في سيناء؟ ثم ألا تكفي دعاة الحريات والمساواة في الغرب قراءة ما طرحه الرئيس المخلوع محمد مرسي من رؤى سياسية في «إعلانه الدستوري» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي دليلا ملموسا على التوجهات الأوتوقراطية لحزبه؟

في حال التسليم جدلا بأن سياسات مرسي الفئوية والتمييزية لم تجلب اهتمام الغرب الديمقراطي، فكيف يمكن تفسير تجاهل العواصم الغربية لكل التشريعات التسلطية التي حاول الرئيس المخلوع تمريرها في ظرف سنة واحدة من عمر عهده القصير؟

مؤسف أن يبدو المشرق العربي وكأنه يعيش اليوم، على خلفية صراعاته الطائفية، قرونه الوسطى في القرن الحادي والعشرين. إلا أن ذلك لا يمنع التساؤل عما إذا كانت مناهضة الغرب لعملية الإطاحة بنظام ديني - إخواني تنبع، كما يقول مسؤولوه ويروج إعلامه، من موقف مبدئي هو: تأييد الشرعية المنتخبة. إذا كان هذا الموقف يصح حيال الشرعية المنتخبة كائنة ما كانت فهو لا يصح تجاه الشرعية المنتخبة أينما كانت، علما بأنه يصعب افتراض أن أجهزة المخابرات الغربية تجهل ملابسات عمليات الانتخاب في كل دول العالم النامي، وليس في مصر فقط.

لذلك يبدو مستغربا أن يكون الغرب، وخاصة الدول الأوروبية التي اختبرت عبثية الحروب الدينية في قرونها الوسطى وعرفت أبعادها السياسية، هي الدول المستنكرة لعملية الإطاحة بنظام «ديني» متسلط تحول استمراره في السلطة إلى مشروع حرب دينية داخل بلاده.

هل عاد الغرب إلى التعامل مع دول الشرق الأوسط بأسلوب ما كان يعرف في عصر السياسات الإمبريالية بـ«المسألة الشرقية». وتحديدا هل أصبح منطلق تعامله مع «المسألة الشرقية» الراهنة قناعة مفترضة بأن «الإسلام السياسي»، لا الديمقراطية التعددية، هو عامل الاستقرار الأمتن لدول المنطقة؟

قابل الأيام هو المحك العملي للفرضيات الغربية، إلا أن الواضح أن موقف الديمقراطيات الغربية من أحداث مصر لا يخلو من نظرة فوقية إلى مصير شعوب المنطقة.