الغرب والسيرة الشعبية

TT

أقوى الأفكار هي تلك التي تتسلل إلى اللاوعي الجمعي لتستقر فيه وتتحكم عن بعد في سلوكك وفي صياغة أفكارك بغير وعي منك. لن تستطيع التحكم فيها، بل هي التي تتحكم فيك وتقودك ربما إلى حيث لا تريد أنت. هناك نوافذ كثيرة تستطيع أن تفتحها على اللاوعي لتتعرف على مكوناته، ولكن هناك نافذة واحدة تضمن لك رؤية أفضل، إنها نافذة الأساطير والحواديت القديمة والسير الشعبية. وفي تتبعي لخوف المصريين شبه الغريزي من الغرب وإحساسهم الدائم بأنه يشكل خطرا عليهم، اخترت السيرة الشعبية للظاهر بيبرس وهو أحد الحكام المماليك المصريين الذين مجدتهم السيرة الشعبية. علما بأن السيرة الشعبية لا تلتزم بالحقائق في حياة صاحب السيرة، بل هي تصنع منها صورة البطل الذي تفضله. بيبرس حاكم قوي، قادر على هزيمة خصومه بسهولة، ولكن عدوا واحدا هو القادر على منازلة بيبرس في جولات كثيرة لا تنتهي، إنه القاضي جوان، الذي يعمل لحساب أمير جنوا في إيطاليا، هذا هو الغرب كما يراه الحكاء راوي السيرة، وإذا كان بيبرس صاحب ذكاء وحيلة فالقاضي جوان أيضا صاحب حيل شريرة، إنه يشعل النار في سوق جديدة أقامها بيبرس، كما يجند عددا من العربان من ضواحي القاهرة ليرتكبوا جرائم في القاهرة. غير أن راوي السيرة لا يهتم بأن يذكر لك السبب أو الأسباب التي جعلت من أمير جنوا عدوا لبيبرس، مكتفيا بأنه أمير جنوا، هو ممثل الغرب، تماما كما يحدث هذه الأيام، تماما كما يقول لك أحد المتحدثين في التلفزيون، إن الغرب يتآمر علينا ويريد أن يفعل بنا كذا وكذا.. لماذا؟ من دون لماذا.. لأنه الغرب يا صديقي.. ألا تعرف ذلك؟

هل لكلمة «الغرب» في اللغة العربية، تداعيات غير مريحة في الذهن؟ أعتقد ذلك، فبعيدا عن رغبة بعض الناس في الاستمتاع برؤية مشهد غروب الشمس فوق البحر، تظل الكلمة تعني الغياب والاختفاء. إن الصراع الأساسي في سيرة الظاهر بيبرس هو بينه وبين أمير جنوا، في صياغة واعية بالصراع السياسي وأساليب الحكم، ففي إحدى الجولات يأتي القاضي جوان إلى الإسكندرية ومعه مجموعة عمل من إيطاليا للقيام بأعمال تخريبية، ويستأجر لهم منزلا، طبعا هم تابعون لأجهزة أمير جنوا الأمنية والمعلوماتية، الطريف أن الحكاء يسميهم «مجموعة من العياق» هذه المجموعة المخابراتية تقوم بالعدوان على التجار وخطف الأطفال، وهنا يقوم أمن الإسكندرية بإبلاغ بيبرس أنهم عجزوا عن معرفة الفاعل، وعلى الفور وبغير أن يبلغ أجهزة أمنه، يسافر إلى الإسكندرية، وعلى الفور يقبض عليه القاضي جوان ويخدره ويضعه في صندوق ويضعه على أول سفينة مبحرة إلي إيطاليا. كما ترى، هو صراع درامي حقيقي جدير بفيلم بوليسي، بالطبع يكتشف أمن بيبرس غيابه، فيعطي الأوامر على الفور بإغلاق الميناء وعدم إبحار أي سفينة، ثم تفتيش السفن كلها إلا أن وجدوه. ينجو بيبرس هذه المرة، ولكن الصراع مستمر، ورغبة الغرب في القضاء عليه لا تتوقف، بالضبط كما أن رغبة الغرب في القضاء علينا، مستمرة هي الأخرى.. ليه؟ من غير ليه.