كوميديا «حروب الأتاري»

TT

إلى أن يقرر السيد أوباما ماذا يفعل بسوريا، ولا أحد يعرف ماذا سيقرر، ومتى، وكيف، فإن هناك فضائيات عربية أعدت العدة لموسم «أتاري» مزدهر، يعزف عليه - في هذه الفترة - عدد من العمداء واللواءات، الذين يقدمون في موسم كهذا، كخبراء في الشؤون الاستراتيجية، وبالمناسبة فإن لكل قناة لواءاتها وعمداءها ممن برعوا في قراءة التطورات، وفق ما تريده القناة أو من يقف وراءها!

الموسم الحالي، الذي بدأ صاخبا لمجرد انكشاف مجزرة الكيماوي في سوريا، حفل ومنذ البداية بصور كوميدية، ولو أن الخبراء الاستراتيجيين يتحدثون دائما بطريقة رصينة، وقد رسموا على وجوههم تكشيرة رجل المعارك الكبرى.

ومعنا الآن في الاستوديو من دمشق أو عمان أو بيروت أو القاهرة، مثلا لا حصرا، العمداء واللواءات فلان وفلان، ليلقوا مزيدا من الأضواء على الموقف الراهن، واحتمالاته القادمة.

يكون الخبير المختار بعناية من قبل القناة قد حفظ بعض المصطلحات العسكرية الباهرة، ليقولها كي يوفر مصداقية لتحليل «اللاشيء» الذي سيتوصل إليه، ولمزيد من الإبهار يكون معدو البرامج والأخبار قد وفروا حاسوبا فيه رسوم لطائرات في وضع انقضاض، ودبابات تتقدم، وفلول تتقهقر، وأسهم تمتد بمهابة بين مصدر النار والهدف، وحين يكمل الخبير عمل «الأتاري» وعرض المصطلحات الفخيمة يدخل مفكر تكون القناة قد عينته شريطة أن يكون قادرا على قول الشيء وعكسه بذات الكفاءة في الإقناع، فيثني على المشهد العسكري ويؤيد أقوال اللواء أو العميد مع أنه لا يعرف معناها، ويشرع في رسم الغلاف السياسي لما سمع، ولما يريده عراب القناة الذي لا ينفق المليارات عليها من أجل خلاصات لا تناسب هواه السياسي، فيقول غالبا إن الوضع الراهن مفتوح على كل الاحتمالات، وعلى طريقة البصّارة التي تبهر الزبون بالقول، «إن أمامك سكة سفر»، أو أنك أفطرت اليوم قبل حضورك إلى هنا.. يقول الخبير المفضل الاحتمال الأول.. أن يوجه الأميركيون ومن معهم ضربة قاصمة تطيح بالنظام.. والاحتمال الثاني أن يوجهوا ضربات نوعية لإضعاف قدرات النظام، والاحتمال الثالث ألا يضربوا مفسحين المجال للتحرك الدبلوماسي، وحين يصل إلى الاحتمال العاشر فلا بد أن يوفق في وقوع احتمال واحد من هذه الاحتمالات العشرة، ليفوز «الخبير» بثقة صاحب القناة إلى جانب فوزه بلقب «من يعرف النتائج قبل وقوعها»، وفي كل الحالات يفوز بذلك الذي يعرفه الجميع، وهو في هذا الزمن ليس مجرد الأخضر.

يظهر المذيع انبهارا بهذا التحليل الشامل والمتميز، ويسأل المفكر أو الخبير عن ردود الفعل المتوقعة.. يرسم الخبير تكشيرة الجدي العارف، وحين يكون بعيدا عن الاستوديو في بلد آخر فإنه يمارس حكاية «حكلي تحكللك»، فيثني على الاحتمالات التي ساقها زميله في الاستوديو، وقد يضيف عليها من عنده احتمالا ما، إلا أنه يلتزم بذات الأسلوب؛ البصّارة وسكة السفر، فيقول كما قال وليد المعلم مثلا إن هنالك مفاجآت يدخرها النظام لساعة الشدة، ما هي هذه المفاجآت؟ فيجيب على نفسه: لا داعي للتسرع في استنتاجها، فقد نراها وقد لا نراها، ثم يذهب إلى إيران، وبالتأكيد لن يعدم تصريحا قاله أحد القادة العسكريين أو الدينيين، ينطوي على رد فعل من نوع: لن نسكت، أو لن نسمح بالاستفراد بسوريا، ثم يعرج على حزب الله وقد يصل إلى فنزويلا، ويختتم بالقول في هذا الأمر، كل الاحتمالات مفتوحة، بما في ذلك «اللاشيء».

يختتم المذيع وصلته، ويرسم على وجهه علامات انبهار كان قد تدرب عليها لمنح الخبير المعين مصداقية تزيد من إقناع الجمهور به وبما يقول، ويعد بوصلة أخرى أو أنه ينتقل بضيوفه إلى ساحة أخرى، فـ«الأتاري» الملون مبرمج على احتمال أن تحتل قبرص أميركا.

هذا المشهد، المتكرر منذ أول انطلاقة لفضائيات عربية، أي منذ أن أكرمها الله بحروب كان لـ«الأتاري» دور بارز في عرضها وقراءة تفاصيلها، هذا المشهد فيه من الكوميديا المغلفة بالجدية ما يفوق كثيرا مشهد إسماعيل ياسين وعبد الفتاح القصري في فيلم «ابن حميدو»، ذلك الفيلم الذي دخل التاريخ من خلال عبارة لا تزال تتداول حتى يومنا هذا رغم مرور نصف قرن على إنتاجه، هي عبارة «نورماندي تو»، غير أن الفرق بين المشهدين أن الأول أبيض وأسود والثاني بالألوان، إلا أن الأول على فقر إمكانياته الفنية كان أكثر براعة في عرض الموقف العسكري يقرب الفرقاطة المملوكة للقصري، وليس في عرضه لا لواءات ولا عمداء ولا عبارات عسكرية واستراتيجية فخيمة.

ما يقال بشأن الوضع السوري يقال مثله في الشأن المصري، فكثر الله من أمثال الخبراء والمفكرين ولا كثر الله من حروب «الأتاري».