مدن الصيف :«بائع دحي»

TT

ذات يوم قال لي رشاد الهوني إن عبد الحميد البكوش سوف يمر بالدار غدا ويريد أن يزورك في «مكتبك». كنت دائم الكتابة عن البكوش منذ أن أصبح هذا الشاب رئيسا للوزراء في بلد يدرج إلى التقدم. كان واضحا أن «الحقيقة» راهنت على البكوش بلا حدود وراهن على دورها بلا قيود. ولم يرَ في رشاد الهوني الذي يبدو مثل توأم ثالث لمصطفى وعلي أمين، مجرد رئيس تحرير بل شريكا في قرارات التحديث. عندما دخل عبد الحميد البكوش إلى «مكتبي» شعرت أنني أعرفه منذ زمن طويل. لم يجلس لكنه أفاض في الكلام والمودات: على كل واحد منا أن يكتب سطرا ما، في تحديث ليبيا.

كان البكوش يحمل أول دكتوراه من السوربون. وكان الأول في هذه الفئة الشابة من رؤساء الوزراء. فالنكات كانت تسخر من بعض من قبله. كمثل بائع الدحي (البيض) الذي صار رئيسا للوزراء. لكن تلك كانت ليبيا التي يحاول إدريس الأول ترسيخ بنائها، وتلك كانت مكوناتها الأولى. و«بائع الدحي» كان أكثر رفقا بأهله وبلده من الذين خرجوا على الناس من ثكنة بنغازي كمن يخرج على برية.

كان إدريس الأول رجل خلق وورع وبلا أبناء. وشاع أنه ضعيف أمام بعض العائلات التي أسند إليها الأمن والمال. حتى إنه عندما وقع انقلاب معمر القذافي والملازمين الآخرين، ظنت التكهنات الأولى أن الشلحي هو صاحب الانقلاب. كنت قد أصبحت يومها في «النهار». وطبعا كان عليّ أن أكتب القصة الأولى للحدث. وضعت من الأسئلة الكثير من دون الجزم في شيء. تفردنا بالأسماء التي كنت أعرفها من أيام بنغازي. وفي ظهر اليوم التالي اتصل بي غسان تويني من مكتبه قائلا: لقد تميزنا عن كل صحف لبنان وربما عن جميع صحف العرب. مكافأتك راتب شهر كامل.

من مكتبه في الطابق التاسع كان ينزل إلى مكاتبنا، تقريبا كل يوم، ليمارس تواضع المعلمين الكبار. يطرح الأسئلة وكأنه متدرب. يتجاهل النقد طويلا ولا ينسى التقدير مرة واحدة.

طلب مني أن أسافر إلى ليبيا الجديدة، فاعتذرت. أنا مع تلك التي عرفتها. شعرت بالخوف على أصدقائي، لكن شجاعة رشاد الهوني كانت أكبر من محدثي النعمة والسلطة وبهلوانات الألعاب القومية. شعرت بأسى لأنني لن أعود إلى بنغازي لأرى أصدقائي فيها. بعضهم خدع نفسه أو خدعه النظام أو قهره الواقع فانضم إلى الركب، بصفة أو بأخرى. الراحل الدكتور علي فهمي خشيم فلسف لصاحب الكتاب الثالث أن «شكسبير أصله ليبي يدعى الشيخ زبير». فحولها هذا إلى نظرية ثالثة. زملاء مثل محمد وريث وعبد الرازق أبو خيط لم نعد نجرؤ على الاتصال بهم لكي لا ينكل القائد برجعيتهم. غابت أخبار الحاج حديفة الهوني إلا من بعض المسافرين. والعم الفيتوري كان عندما تركته - مثل عبد الفتاح - على طريق الغياب.

إلى اللقاء.