مدن الصيف: برتقال مغربي في موسكو

TT

موسكو صيف 1972. الدافع قمة القطبين، ليونيد إيلييتش بريجنيف وريتشارد ميلهاوس نيكسون. الصحافي العربي الوحيد، لأن «النهار» هي الصحيفة العربية الوحيدة التي تتكلف موفدا إلى الأحداث الخارجية. موسكو رمادية باهتة ونظيفة. مرهبة وآمنة. السكن في فندق «متروبول» حيث في كل غرفة خط هاتفي مباشر. هذا يغريك بأنه لا رقابة من عامل الهاتف، ويسهل للرقيب عملية التسجيل. كل صوت في موسكو له رقيبه. كل لهاث له ناطور. كل رقيب عليه رقيب. ستالين لم يمت تماما بعد، وجثمان لينين مسجى في الكرملين، لكي يتذكر كل من نسي أنشودة الحزب: «لينين ما زال شابا.. وأكتوبر الفتى قادم!». إنها ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الخالدة. لكنها سوف تزول بعد عقد ونصف العقد، ويبقى لينين وحيدا في الساحة الحمراء، قبلة السياح والشامتين وحنين بقايا الرفاق.

كانت موسكو عالما جديدا عليّ. تشبه أوروبا التي أعرفها، لكنها ليست أوروبا التي أعرفها. تزعم أنها الشرق الذي في مواجهة الغرب، لكنها ليست الشرق ولو كانت في مواجهة الغرب. دولة كبرى مساحة وثقلا وقوة، لكن السفير نعيم اميوني يشير إلى صناديق البرتقال أمامنا ويقول: «لن تعثر إلا على البرتقال فاكهة طوال أسابيع. لقد وصلت شحناته من المغرب الآن. دبابات ببرتقال».

كان واضحا للزائر العادي أن النظام السوفياتي فائض في الأشياء الكبرى، وناقص في الأشياء الصغيرة: أول في الفضاء ومدار الأرض والصواريخ عابرة القارات.. لكن الناس لا يعيشون في مدار الأرض، بل عليها، ولا يركبون الصواريخ بل يريدون سيارة عادية مثل التي جعلها هنري فورد في متناول الناس العاديين. في حين أن الدولة السوفياتية الكبرى تعيش كلها على تصنيع سيارات «فيات 124» إيطالية أعطتها الاسم السلافي «لادا»، إلهة التناغم والفرح والشباب، لكن السيارة متنافرة وكئيبة وعليلة.

الشرطة في كل مكان. ولا يزالون يسمونها «الميليشيا» من أيام النضال المميت ضد النازية، يوم تطوع كل سوفياتي لمقاتلة الهتلرية المجنونة. رجال شرطة بلا بطون نافرة أو مرتخية. أنيقون، طوال القامات، وبثياب رياضية كأنهم في الدورة الأولمبية. هل هم هكذا دائما أم فقط الآن لمكايدة نيكسون ووزيره هنري كيسنجر؟ كل شيء في موسكو موضّب مثل البرتقال المغربي. وجه الصندوق مثل قاعه. ثمة شبه آخر: خلال القمة العربية تكون الدار مثل حديقة سوفياتية، لكن ما إن يسافر الضيوف حتى تعود «كازا» إلى صخبها وأرتالها ومفاهيمها. ترى كيف ستكون موسكو بعد مغادرة ضيفها وغريمها؟ لقد أمضى بريجنيف ووزيره الأبدي اللامع أندريه غروميكو الليالي الطويلة في دراسة الرجلين اللذين سوف يفاوضانهما على خفض الأسلحة وتخفيف الكوكب من خطر الرماد. لا تترك الدول الكبرى شيئا للصدف. وعندما يذهب هذا العالِم الاقتصادي المزموم الشفتين، أندريه غروميكو، إلى الأمم المتحدة، يمضي الوقت في شيئين: تبضع الفساتين المزهرة البسيطة للزوجة ليديا ديمتريا، ودراسة طباع الأميركيين: كيف يمكن إثارتهم من أجل اكتشاف نقطة الضعف.

كيف بدا لك مجيء نيكسون إلى موسكو صيف 1972؟ مثل مجيء جمال عبد الناصر إلى جدة صيف 1965: لن يستطيع أن يهزم أحدنا الآخر. تعالوا نخفض الخلاف إذا تعذرت زيادة الاتفاق. راجع في هذا الباب أطروحة الأمير فيصل بن سلمان في أكسفورد.

إلى اللقاء.