خيارات أنقرة

TT

تركيا ترفض بعد هذه الساعة أن تكون العملية العسكرية المزمع تنفيذها ضد النظام في سوريا مجرد رسالة تحذيرية له بعدم تكرار استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين والأبرياء؛ فهو لن يفعل سوى ما يراه مناسبا للبقاء في السلطة غير عابئ بالثمن الذي يدفعه الشعب السوري المنتفض من أجل الحرية والديمقراطية وحق المشاركة في تقرير مصير البلاد ومستقبلها.

وحكومة رجب طيب أردوغان تدعو لأن يكون خيار الرد على بشار الأسد في خرقه للقوانين والقواعد والأعراف الإنسانية والأخلاقية أبعد من أي عملية مبتورة جزئية، لأنه سيخرج منها أكثر عدوانية ودموية مما هو عليه اليوم، وأن البديل الأقوى هو تدمير نواة قوته العسكرية والاستخباراتية وقطع الطريق على حلفائه الإقليميين والدوليين للمضي في سياسة دعمه والمراهنة عليه كحصان طروادة في تحقيق مخططاتهم وأهدافهم.

والرئيس التركي عبد الله غل ووزير خارجيته داود أوغلو، يؤكدان أنه لا بد أن تكون للعملية المنتظرة استراتيجية سياسية تتجاوز الاكتفاء بتحذير النظام أو تأنيبه، وأن أنقرة ستكون في قلب التحالف الدولي الذي سيتحرك بكافة الوسائل للرد على مجازر الغوطة الشرقية التي لا يمكن لها أن تمر إلا عبر إزاحة نظام الأسد كحل وحيد لفتح الأبواب أمام انطلاقة سوريا الجديدة.

وأقرب أعوان أردوغان كرروها أكثر من مرة؛ أن الهدف لا يمكن أن يكون بعد كل القتل والتدمير إقامة منطقة أمنية عازلة أو ممرات آمنة على الحدود التركية - السورية تتحول إلى حرب خنادق غير معلنة تطيل عمر الأزمة أكثر فأكثر وتتركها لعبة بيد من يهمه تحويلها إلى حرب استنزاف طويلة الأمد لا غالب ولا مغلوب فيها.

لكن أنقرة نفسها تعرف:

أن قرار البرلمان التركي الصادر في الخريف الماضي لن يكون كافيا لتفويض الحكومة في التعامل مع أي تطور يتطلب محاسبة النظام على أفعاله، وأن صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية لها علاقة مباشرة في إصدار الأوامر للرد على أي عدوان وليس المشاركة في عمليات قتالية خارج الأراضي التركية. وتعرف أيضا أنها حتى الساعة لم تتحرك باتجاه دعوة البرلمان التركي لقطع عطلته الصيفية والاجتماع لمناقشة تطورات الأزمة السورية واحتمالات المشاركة في العمليات الحربية داخل الأراضي السورية، وأن حجج المعارضة بالاعتراض على أي تدخل عسكري تركي في سوريا تتعارض مع حجم المطالب والاقتراحات التي تضعها حكومة أردوغان على الطاولة.

وأنه رغم إصرارها على رفض وجود أي تشابه بين الحالتين، فالمشهد الذي عاشته البلاد في مارس (آذار) 2003 إبان الحرب الأميركية على العراق لا يجوز له أن يتكرر هذه المرة أيضا في الموضوع السوري من خلال صعوبة استصدار قرار برلماني داعم للحكومة في التحرك العسكري داخل الأرضي السورية.

وأن حسابات الحقل في الخروج من المستنقع السوري من خلال الاكتفاء بخدمات لوجيستية، قد لا تنطبق على حسابات البيدر التي يدعو إليها أردوغان يوميا بضرورة أن تكون العملية العسكرية خطوة تمهيدية لإسقاط النظام.

وأنه لا يمكن الحديث عن سوريا جديدة في المنطقة قبل إنجاز مهمة إزاحة القيادة السياسية الحالية، خصوصا أن المدن التركية ستكون بين أول من يقرر النظام استهدافه عندما يشعر بخطر اقتراب موعد رحيله عن السلطة.

تركيا العسكرية والأمنية والاقتصادية ربما قد تكون استعدت داخليا لسيناريوهات واحتمالات تفاعل الأزمة السورية، لكنها سياسيا وشعبيا وإعلاميا ما زالت بعيدة عن جدية هذا الملف ومتطلباته ومضاعفاته وانعكاساته، وهذا ربما هو ما يقلق الكثيرين الآن، لا أحد من شركائها يريد أن تصدمه مفاجأة آخر لحظة على الطريقة البريطانية التي ستفقد المراهنين عليها مركز ثقل عسكري وبشري حقيقي إذا ما تدهورت الأمور ودخلت الأزمة في منحى إقليمي جديد.

حكومة أردوغان تتهيأ لانتخابات محلية ورئاسية ولا تريد أن تفقد ثقلها البرلماني والسياسي بعد تراجع السياسة الخارجية في أكثر من مكان ومع أكثر من دولة. وتركيا قلقة، لأن سيناريوهات خريف الغضب الموعود حول انفجارات سياسية واجتماعية وأمنية تذكر بأحداث «تقسيم» تحاصرها من كل صوب. تغيير لون أحد السلالم الحجرية في إسطنبول كاد يتحول إلى أزمة بالأمس، فكيف يكون الأمر ونحن نتحدث عن فرص من نوع دخول قوي لتركيا على خط الأزمة السورية، وحيث يطاردها كثر من الذين لهم حسابات لم تصف مع حكومة «العدالة والتنمية» في الداخل والخارج.

بعد أكثر من عامين على الأزمة السورية، برزت إلى العلن فرصة قد لا تسنح مرة أخرى للمجتمع الدولي لغلق هذا الملف، وتركيا هي بين أول من يهمها إنهاء هذه المسألة بعد تحملها الكثير من أعباء سياسات النظام وقراراته ومواقفه. أنقرة تعرف أن ارتدادات تطورات المشهد السوري على الداخل التركي بكل إيجابياتها وسلبياتها مسألة لا مفر منها، وأنه رغم كل شيء هناك موقف لا بد أن يعلن وهو أبعد من استقبال اللاجئين السوريين ودعم المعارضة وتقديم التوصيات والنصائح للحلفاء.

تراجع النظام السوري عن مشروع إضرام النار فيما تبقى في سوريا هي أُمنية الكثيرين، كما أن المشاركة التركية المباشرة في العمليات ضد مواقع النظام في الأيام المقبلة قد لا تكون مطلبا أساسيا، لكن تفاعلات الأزمة وتشعبها سيفرضان على تركيا الجار السوري بشراكة حدودية واسعة أن يكون أول من يفتح الأبواب أمام عملية إنقاذ السوريين من بشار الذي وصفه أردوغان بالديكتاتور والقاتل أكثر من مرة.