أفضال الديمقراطية.. على سوريا

TT

قد لا يكون من المبالغة الافتراض بأن التاريخ سيذكر يوما أن ثورة المطالبة بالحريات والديمقراطية في سوريا ذهبت ضحية اللعبة الديمقراطية في الولايات المتحدة أو، على الأقل، دفعت لهذه اللعبة ضريبة باهظة الثمن على صعيدي موعد حسمها وإطالة معاناة السوريين من مآسيها.

بين هاجس حرب العراق وعقدة جائزة نوبل للسلام، وفي وقت توقع فيه العالم أن يخرج الرئيس الأميركي باراك أوباما من تردده في اتخاذ قرار واضح وحاسم حيال شق النظام السوري عصا الطاعة على «خطوطه الحمر»، واصل اعتماد نهج التلكؤ على دبلوماسية الحسم.

ربما فضّل الرئيس أوباما، في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها إدارته، الوقوع في فخ روسيا الدبلوماسي على مواجهة أكثرية جمهورية في الكونغرس تلتزم تقليديا مناوءة قراراته وسياساته كائنة ما كانت.

وربما كانت قناعات الرئيس أوباما الشخصية ومنحاه السياسي البعيدان عن «المغامرات» العسكرية الخارجية – خصوصا في الشرق الأوسط – وراء تردده في اعتماد موقف حاسم من التدخل العسكري في سوريا. إلا أن من الصعب فصل موقفه المتأرجح من الضربة المفترضة – حتى على أهداف سورية «محددة» في الزمان والمكان - عن حسابات داخلية يواجهها في إطار اللعبة الديمقراطية في واشنطن.

اتجاه الرئيس أوباما لاستشارة الكونغرس في قرار التدخل العسكري في سوريا يبرره سعيه لرفع مسؤولية اتخاذ هذا القرار عن كاهله، إضافة إلى رغبته في إضفاء طابع «قومي» عليه. ولكن الرئيس الأميركي اتخذ قرار العودة إلى الكونغرس في وقت يعلم فيه أن نواب الأكثرية الجمهورية في الكونغرس يحشدون كل قواهم للتصدي لمشروع الموازنة المقترح من البيت الأبيض.

من هنا مفارقة قرار العودة إلى الكونغرس في شهر سبتمبر (أيلول) تحديدا، فالكونغرس مدعو لإقرار الموازنة الجديدة قبل نهاية الشهر الحالي – أو الاقتراع على تمديد وجيز لها – وفي الوقت نفسه إلى البت في اقتراح لرفع سقف مديونية الدولة بغية تمكين الإدارة من مواصلة الإنفاق العام، وذلك قبل حلول منتصف أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

معضلة الرئيس أوباما مع الأكثرية الجمهورية في الكونغرس أن هذه الأكثرية ليست مناوئة لمشاريعه المالية فحسب بل أيضا لمشروعه المفضل، قانون الرعاية الصحية. فرغم أن الرئيس الأميركي وقع هذا القانون عام 2010 لا يزال الكثير من النواب الجمهوريين يحاربونه ويسعون إلى وقف العمل به عن طريق عرقلة تمويله.

ومع التسليم بأن لا صلة سياسية مباشرة بين الشؤون المالية الأميركية والموضوع السوري فإن تعرض دعوة دبلوماسية أوباما الخارجية إلى نكسة في الكونغرس لن تخلو من تبعات سياسية قد تحوله إلى «بطة عرجاء» – وفق التعبير الأميركي - على مدى ولايته الثانية.

قد تكون هذه الحسابات الداخلية وراء مسارعة أوباما إلى تلقف اقتراح موسكو نزع سلاح سوريا الكيماوي إلى حد تبنيه، مع ما يرتبه هذا الموقف من اضطرار واشنطن للعودة إلى تقديم المقاربة الدبلوماسية للحالة السورية على العسكرية، ومن إتاحة فرصة ثمينة لروسيا لمنح سوريا «درعا دبلوماسية» تقيها احتمالات الضربات الأميركية في وقت كانت تمر فيه بأحرج ظروفها الداخلية والدولية.

أميركيا، قد يكون اقتراح موسكو «خشبة خلاص» أوباما من مأزق داخلي – ولو إلى حين.

أما دوليا، فقد أثار تأرجحه بين الخيار العسكري والخيار الدبلوماسي تساؤلات متعددة حول قدرته - حتى كرئيس الدولة الأعظم في عالم اليوم - على إدارة أزمة خارجية بحجم الأزمة السورية المتواضع بالمقاييس الدولية، ناهيك عن تعريضه مصداقية الدبلوماسية الأميركية للتشكيك في عواصم الشرق الأوسط والدول الحليفة للولايات المتحدة أيضا.

إلا أن البعد الأكثر إثارة للقلق في سياق تراجع أوباما عن تهديدات الضربة العسكرية للنظام السوري قد يكون تكريس موقع روسيا الثابت في أي تسوية سياسية للنزاع السوري، فإذا كانت محادثات جنيف ضمنت لموسكو دورا في التسوية المرتقبة فإن موافقة واشنطن على اقتراحها عزز هذا الدور ورفع موسكو من وضع اللاعب إلى موقع المبادر، إن لم يكن الموجه للتسوية المفترضة.