رجل في المترو

TT

فكَّرت قبل الكتابة عن الدكتور أسامة الباز، ماذا يمكن أن أضيف إلى ما كُتب؟ لا شيء. علاماته قليلة وذكره كبير: أشهر دبلوماسيي مصر، لمرحلة معينة، وأشهر راكب مترو في تاريخ القاهرة وتاريخ المترو. لا جديد إذن. لكن الواجب الأخلاقي يقضي أن تذهب إلى التعزية في غياب عربي نبيل. مدرسة سياسية ودبلوماسية وفكرية رفيعة، تلك المدرسة التي خرج منها أسامة الباز. من هو عميدها؟ التحديد صعب. لكن فلنقل تحسين بشير. فلنقل أولئك الذين رأوا أن أعظم تجلٍ لعروبة مصر هو ألا تكون أرضها محتلة. أمسكني الدكتور عصمت عبد المجيد من يدي في رواق الأمم المتحدة وقال: «يجب أن نحتفل بذلك جميعا، آخر شبر في طابا عاد اليوم إلى مصر».

في آخر زيارة إلى القاهرة طلبت زيارة الدكتور أسامة، قال لي كثيرون، مالك ومالو، الراجل انتهى، وهو معزول لا يصغي إليه أحد. وكان ذلك سببا إضافيا لأطلب مقابلته. لم يكن مكتبه وحده فقط خاليا، بل المبنى الواقع خلف «سميراميس» برمته، كان خاليا. ولم يكن فيه سوى سكرتيرته وبعض الموظفين.

لا تسخروا مني، لكنني شعرت أن نظام الرئيس مبارك دخل مرحلة الخلل، وربما الخطر. بدا واضحا أن الرجل في المكتب الوضيع أصبح بلا عمل، وأن المشورة على «الريس» استقرت عند سوزان وجمال مبارك.

لكن اللقاء الذي فاض على الساعة، كان فائضا أيضا بآداب أسامة الباز. تظاهر وكأن شيئا لم يحصل. كان يريد أن يعرف ماذا تستطيع مصر أن تفعل للبنان؟ وكان جوابي: لا شيء، لأن رئيس لبنان (إميل لحود) لا يقدر على إرسال برقية إلى مبارك في ذكرى 23 يوليو (تموز). ورجوت الدكتور الباز أن يستبدل بذلك خدمة أكثر بساطة، تتعلق بأوضاع بعض اللبنانيين الأوادم في مصر. ولم يتردد لحظة واحدة. وهي مناسبة أشكر فيها أيضا نجيب ساويرس، في التفاته إلى بعض اللبنانيين الذين خفت بهم الأيام وأثقلت عليهم الأقدار.

ذلك الصباح كان أسامة الباز غاضبا: صادر الإسرائيليون مساعدات مالية أرسلتها مصر عبر رفح: «دول قلال أدب ما يعرفوش إن الاتفاقات تنظم الأعمال لكنها لا تلغي عروبة مصر». لكن أسامة الباز كان يبدو مهزوما. فالرجل سيد قصر القبة لم يعد يصغي إلا إلى سوزان وجمال، اللذين سيقول عمر سليمان، إنهما رسما الخاتمة الوعرة. لم يعبر الباز عن أي تذمر. لكن هو وعمرو موسى وجميع الذين قالوا لا، طالب جمال وأمه بإبعادهم. سوف يقول مبارك في مذكراته (العربية)، إن عمرو موسى كان أشجع من يناقش، وإن أسامة الباز كان الوحيد غير الفاسد بين جميع من حوله. رحمه الله، فقدت مصر حكيما، وفقدت القاهرة المسؤول الوحيد الذي يمشي إلى المترو وحيدا: «أخاف الناس ليه؟ دول أهلي».