الشيب حلو والحياة شهية

TT

أنا بنت مدينة. أحب جلبة المدن والشوارع الواسعة، والميادين التي تتوسطها مجسمات ونوافير وحدائق. وأحب مراقبة الأمهات الشابات وهن يدفعن بعربات الأطفال وفي العيون نظرة رضا وأمل في المستقبل.

في مخيلتي عدة مدن؛ منها باريس والقاهرة وبرشلونة والرياض وروما ولندن. أخيرا، اعترتني لحظة تنوير، فإذا بلسان حالي يهتف بأنني أحب تلك المدن بالتحديد، لأن كلا منها تتميز بمبان وآثار لا تبرح ذاكرتي. فالقاهرة لا تنسى بعد ليلة مقمرة وإطلالة مسائية من شرفة الفندق على أضواء المدينة، تتوسطها الأهرام.. ومن منا زار باريس ولم يقف أمام برج إيفل؟ ولو لم يترك المعماري الإسباني أنطوني جاودي بصمته على شوارع برشلونة لما عششت في خيالي وداعبت أحلامي الطفولية بالأشكال الهندسية والنقوش والألوان. وفي الرياض ميدان تتوسطه دلة قهوة مائلة ميلا بسيطا فيه إمارات الدلال والثقة، تحدثك عن فخر سكانها بما تمثله الرياض للمملكة العربية السعودية ثقافة وتاريخا.

منذ أيام، كنا نمر بالسيارة بجوار حدود حديقة الهايد بارك في لندن، فاستوقفني مبنى صنع من أعمدة رفيعة من الصلب متقاطعة ومتوازية، مُطعّم بأقراص تصاعدية تشبه الزجاج لجلوس الزائرين، ولأول وهلة ظننت أن سحابة كبيرة هبطت بخفة على الأرض، ودعت الناس ليجلسوا برهة لتأمل المساحة الخضراء التي تحتضن مبنى البلاديوم الكلاسيكي بأعمدته ونوافذه ونسبه وأبعاده.

العمارة إبداع. ورغم أنها لا تنجح إلا على أسس علمية دقيقة ترتبط ارتباطا وثيقا بالفيزياء والرياضيات، فإنها تذكر مع الفنون الأخرى مثل الرسم والتصميم والموسيقى.

أما المباني، فتختلف باختلاف وظائفها. ولكن القاسم المشترك بينها هو أنها تبنى لكي تفي بالغرض الذي بنيت من أجله. ونقطة البداية هي تصميم في خيال المعماري يضم مساحات داخلية لاستخدام الإنسان. وعلى أساس الوظائف تصنف تلك المباني؛ فهناك وحدات سكنية: قصور وعمارات وفنادق. وهناك أماكن العبادة من مساجد إلى معابد وكنائس، ولا ننسى القلاع والحصون والجسور والسدود والمسارح والمدرجات والمنارات والمكتبات والمتاجر ومباني الشركات والمصانع والمخازن ومحطات القطارات وهناجر الطائرات. ويستمر الإبداع حين يختار المهندس المصمم مواد البناء الأثيرة من أخشاب وطوب وأحجار ومصيص وصلب وإسمنت. ثم تتسلل الفنون الأخرى، مثل النحت وصناعة الأثاث والرسم، لإضفاء لمسات جمالية على الطابع الوظيفي للمبنى.

أحيانا، أشعر بالأسف، لأن العالم الكبير أصبح صغيرا بسبب الثقافة الإلكترونية التي قربت البعيد وألغت الحدود بين دول العالم. فأنت تجلس في بيتك وتشاهد صورا مرئية تمكنك من التجول في شوارع المدن التي تفصلك عنها عشرات الآلاف من الأميال. وهذا يلغي من حساباتنا عنصر الدهشة والرغبة في السفر. كما تمكنك الثورة المعلوماتية بضغطة زر من الاطلاع على ما يجري في برلمان لندن أو خلف الأبواب المغلقة في البيت الأبيض. ولكن، للانفتاح مزاياه. فقد أدهشني أن يكون مصمم البافيليون البديع في حديقة الهايد بارك معماريا يابانيا شابا لم يتجاوز الأربعين إلا بعام واحد.. وما أبعد القاهرة حيث ولدت ولندن حيث أقيم وأعمل من طوكيو التي نشأ فيها المعماري سو فوجيموتو وتعلم ووسعت شهرته العالم! ومع ذلك، ردني هذا الفنان الياباني الآتي من بعيد إلى أحلام الطفولة التي أفرزتها مشاهدة أفلام أميركية تصور أطفالا يسكنون بيتا صغيرا بني أعلى شجرة فأصبح عشا مثل أعشاش الطيور. ومضى قطار العمر، فإذا بطوكيو تخاطب لندن معماريا والقديم يجاور الجديد في مساحة خضراء في حديقة الهايد بارك.

قرأت مرة بيتا من الشعر يقول:

وَالمَرْءُ يأمُلُ وَالحَيَاةُ شَهِيّةٌ

وَالشّيْبُ أوْقَرُ وَالشّبيبَةُ أنْزَق

يعز عليّ أن أعترف بشيب الرأس، ولكن الصدق منجاة، والشعر هو لغة الروح. فالشيب حلو ما ظل الإنسان يحلم. كما أن نزق الشباب المتمثل في فن فوجيموتو يجبر الرأس الأشيب على الاعتراف بفضل الشباب على الشيوخ.