أوزار التغيير.. ورسوخ الإرث الصعب

TT

ربما وضعت الأحداث الحالية أوزارها ليكون الحدث السوري خاتمتها. أقلام تسيل على طريقة تدوين أسباب التناوب على تجريب الفشل. ولا غضاضة أن تسيل الأحبار للنقد المضاعف لهذه المرحلة التي تأتي ضمن سياق المرض المستديم الذي نعاني منه على طول تاريخ «النكبات» التي مرت. العجيب في هذه الأحداث السياسية حالة الرجوع المستمرة للأحداث الأوروبية بغية المقارنة في بدء الحدث، والآن نستعيد الحدث الأوروبي تحديدا لمناقشة تفاصيل التعثر الذي حدث، إذ كيف تحولت أحلام الشعوب وثورات الخبز إلى حلم وصفحة، بل ومشهد من مسرح أسدلت ستائره وانتهى العرض؟! كان العرض بشعا بكل تفاصيله من سيلان الدماء إلى تسيد الأصوليين.

حال الخروج من الاستبداد أو محاولة ذلك عبر التمرد الاجتماعي ضد السياسي، إنما يتعثر بسبب ليس موجودا خارج المتمرد وإنما داخله. ذلك أن مشكلات أساسية جرى تجاوزها في الحالة الأوروبية بالتدريج وعلى مدى ثلاثة قرون. تهادى الخروج الأوروبي من الاستبداد على مدى قرنين ضمن مرحلية مضت بين جبرية توماس هوبز السياسية، وصولا إلى فضاءات روسو في الحق والحرية. بين هذه المراحلة تمت مناقشة الهوية والأنا والآخر والواقع والدين والاختلاف والتطابق، والأهم مناقشة «الفردانية» ومعنى «الحرية»، ذلك أن هذه المناقشات ضرورية لإكمال الخروج من أي استبداد واضح. هنا الفرق بين التمرد الذي يمارس في «حضارات المعرفة» والتمرد الآخر الذي يمارس في حضارات «الحكمة»، تبدو المسافة كبيرة. وفي أوروبا ما إن شارف القرن التاسع عشر على أفوله إلا وتمت مناقشة سلطات المعنى وبدأ الاستدراك على الحداثة نفسها ضمن سياق ما بعد حداثوي، ونوقشت الذات ثم نوقش العالم وجرى ضرب «الأصنام» وأعلن نيتشه عن أفولها آنذاك.

ثمة ترسانة من الإرث الصعب الذي أثقلت به المجالات كلها بسبب الأحداث الجارية، قد يستفيد منها المصور والفنان وربما وجد بها المنتج السينمائي سحرا لعمله، وربما وجد بها الروائي والشاعر شرارة لبدء عمله، لكنها حتما تفتح ثغرات للأسئلة بكل مجالات المعرفة، من علم النفس إلى علم الاجتماع إلى الفكر والثقافة إلى الإعلام. ذلك أن المعنى الذي أنتجه الحدث سلبي للغاية وفيه تهشيم للذات العربية وللمجتمعات. ارتدت الآثار سيئة على التعليم والطبابة والصحة قبل المعرفة. والمشاهد التي تحدث الآن توضح أن المجتمعات الساكنة حين تتحرك إنما تبحث عن سكون أفضل أكثر من البحث عن التغيير، لأن من لم ينصت للأسئلة ويناقش ويستعد للوقوف أمام أصنامه مهدما لها سيعود به المطاف إلى سكون آخر، وهكذا.

وضعت الصورة بصمتها على الأحداث باستمرار، وفي غرف الأخبار آلاف الصور التي تصل يوميا، لن أتحدث عن صور العنف فهي مرعبة ومخيفة، لكن سنتحدث عن الصور التي جعلت الحدث رومانسيا وكأنه بالفعل «ثورة» بينما الثورة لم تقع على طريقة بودريار الذي كتب عن حرب الخليج «حرب الخليج لم تقع»، منطلقا من رؤيته حول العلامة والدلالة، كتب ذلك في صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، وطوره لاحقا في كتاب «حرب الخليج لم تقع» ثم طبع في 1991. جاك دريدا هو الآخر كتب بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2011 كتابه «ما الذي حدث في 11 سبتمبر» معتبرا تدوير الصورة جزءا من ضخامة الحدث. وهذا ينسحب على الأحداث الأخيرة التي سحرت الناس بالصورة الآسرة.

ثمة مداخل أساسية لأي تغيير، من بينها نقاش المفاهيم الأساسية التي نراها أمامنا. أثبتت الأيام أن تغيير العروش لا يغير من الواقع شيئا، والنضال على طريقة اللبوث في السجن سنين عددا، أو البحث عن «مانديلا» جديد، أو التفتيش عن أساطير التغيير، ليس حلا ملائما لهذه المرحلة التي تجاوزت كل هذه النماذج القديمة.

الرهان الآن في البحث عن «مستوى» عيش جديد، والديمقراطية مجرد مستوى، يمكن أن يعثر المجتمع على مستوياته المطلوبة ضمن أدوات التطور المتاحة في التعليم والحرية الذاتية وتصحيح الأخطاء الإدارية والبدء بمشاريع تغيير ضمن مستوى تحمل الثقافة المتبعة، ذلك أن الثورة الفرنسية قد لا تحتملها الثقافة الصينية أو اليابانية أو الشرقية، هناك طاقة للاحتمال على التغيير هي ضمن طاقة احتمال السؤال والشجاعة بمواجهة أسئلة العالم. من يخَف من الأسئلة لن يتحمل التغيير، حينها يكون التغيير مستوى يحكمه الاحتمال.

الصورة أكبر من الحدث، والكثير من الأحداث لم يقع دلاليا لكن وقعت علامات عليه، والثورات لم تقع ذلك أنها حضرت علامة ولم تحضر دلالة، فالصورة تتسيد المشهد.

يكتب روسو في كتابه «هواجس المتنزه المنفرد بنفسه»: «الحرية شبيهة بتلك الأغذية القوية الدسمة، التي تصلح لتغذية البنيات القوية التي اعتادت تناولها، ولكنها ترهق الضعفاء النحاف الذين لا قبل لهم بها ولا يقوون على احتمالها».

* كاتب سعودي