إيران وأميركا: خطر سياسة الحد الأدنى!

TT

لا شيء أكثر سيولة في هذه الحقبة التاريخية الغريبة كالسياسة، كل ما يتصل بها من أفكار ومواقف ونظريات وعلاقات وتوازنات سائل إلى الحد الذي يصعب معه التفكير في ثابت سياسي غير التغيير الدائم نفسه.

السيولة السياسية لا تقتصر على بلدان ما سمي بـ«الربيع العربي»، وإن كانت الأكثر تغييرا وتغيرا على المستوى السياسي، بل شمل ذلك دولا كانت بمنأى عن التغيير الحقيقي في فترات سابقة، ومنها إيران الذي خرجت من أحادية نجاد إلى شيء جديد ومختلف لم تتبد ملامحه حتى الآن، ونحن أحوج ما نكون لقراءته بشكل صحيح ودقيق.

زيارة روحاني وبشكل عمودي مباشر إلى واشنطن عاصمة «الشيطان الأكبر» في الذهنية الإيرانية حدث الأسبوع، إذا ما أخذنا في السياق مشروع روحاني المتمثل في إعادة ترميم علاقات إيران بجيرانها وبالمنطقة والمجتمع الدولي على الأقل، رغم رومانسية الشعار سياسيا، إلا أن ملامح التغيير في السلوك الإيراني تبدأ أسرع مما يتوقع المراقبون.

سيلتقي روحاني على هامش أعمال الجمعية مسؤولين أميركيين، وربما التقى أوباما نفسه، مما سيعد نقطة تحول في فصل جديد من السياسة الخارجية للبلدين.

لنعد إلى الوراء قليلا، وأعترف بأنني كنت لا مباليا كثيرا بحملة روحاني التي كانت ترتكز على شعارات فضفاضة وعامة تغري الناخب أكثر من المراقب، حيث يعتبر مثلث الإصلاح في سياسة روحاني يعتمد على ثلاثة أضلاع: الانفتاح على المجتمع الدولي والجيران، وتحسين وضعية الاقتصاد، والمزيد من الحريات الفردية للمواطنين الإيرانيين، بمعنى آخر تحسين العلاقة بالداخل والخارج والقدرة على تحسين الحياة اليومية وذلك من خلال بوابة الاقتصاد، وهي ثلاثة أضلاع متداخلة على عكس ما تبدو عليه لأول وهلة، فإصلاح الاقتصاد لا يمكن من دون رفع العقوبات الاقتصادية، وتجاوز هذه العقوبات مفتاحه في واشنطن وفي اقتناع الأطراف الإقليمية بأن النظام الإيراني يتحسن في علاقاته بجيرانه، لكن البدء في نسج علاقات متميزة ومتكافئة بالأطراف الإقليمية في المنطقة وعلى رأسها دول الخليج لا يمكن أن يتم بعيدا عن تدخل إيران في المنطقة والملف النووي، وهما قضيتان عالقتان حتى الآن لا يزال النظام الإيراني متصلبا فيهما، وهو ما يعني رغبة إيران في التحول إلى طرف قوي ومحاور بشروطه على الطريقة الصينية والهندية.

والحال أن الولايات المتحدة تطلب اشتراطات أقل تشددا من الأطراف الإقليمية في المنطقة، على الأقل هناك إشارات إيجابية من قبل إدارة أوباما حول المفاوضات الجديدة بشأن الملف النووي وحتى أزمة سوريا، كما أن تهنئة اليهود بدل إنكار المحرقة على الطريقة النجادية وإطلاق سراح ناشطين سياسيين وصحافيين يقدمان إيران كأحد الحلول التفاوضية في المنطقة.

وربما كانت مقالة روحاني «حان الوقت للانغماس» التي نشرها في الـ«واشنطن بوست» دليلا على هذه الرؤية الجديدة من الولايات المتحدة وإيران لبعضهما على حد سواء، والتي عادة ما تشبه أجواء الإعجاب الذي يسبق الخطبة فالارتباط، ارتباط كهذا لا يمكن أن يمرر مع وجود مؤثر مركزي في السياسة الأميركية وهو أمن إسرائيل وعلاقة الولايات المتحدة بحلفائها في الخليج.

جزء من أزمة الدبلوماسية الأميركية وأذرعها الناطقة والمعبرة عنها في الصحافة الأميركية هو التركيز على شخصية «روحاني» باعتباره أكثر اعتدالا من سلفه وأكثر قوة وتأثيرا على القرار السياسي، لكن هذا التركيز يهمل جزءا مهما من القصة نفسها، فطموح «روحاني» مهما كان كبيرا لا يمكن أن يؤثر على قرار الحرس الثوري بفيالقه المؤثرة كفيلق القدس وقائده قاسم سليماني، كما أن دعم خطة لتحول خارج أقواس النظام الأسدي في سوريا لا يمكن أن يتم من دون ضمانات هائلة لاستقرار حزب الله بأسلحته في لبنان، وهو قرار يتعدى كل شعارات روحاني الإيجابية ولن أقول الرومانسية.

الوضع السياسي المقلوب في إيران هو أن الرئاسة اليوم دبلوماسية، بينما القرار السياسي يصنع داخل أروقة الأطراف المؤثرة في النظام وتحديدا في الحرس الثوري وكل مؤسسات حماية نظام الملالي، وهو أمر يعلمه الأميركيون جيدا لكنهم سيقدمون أوراقهم وشروطهم على أمل أن تتجاوز شخصية روحاني الدبلوماسية إلى التأثير الفاعل على القرار السياسي.

يتطلع الأميركيون إلى الحد الأدنى السياسي وهو القدرة على اختراق جدار الصمت السياسي بينهم وبين إيران، لكن هذا الحد الأدنى لا يكفي اللاعبين الأساسيين في المنطقة: دول الخليج والاعتدال العربي التي تملك هواجس أمنية تتصل بالتدخل الإيراني في المنطقة، وتركيا التي تفقد توائمها الآيديولوجيين الإخوان في المنطقة تباعا. كما أن مخرجات الأزمة السورية تلامس أمن المنطقة أكثر من تأثيرها على القرار الأميركي، وهذه معطيات تجعل من الصعب اختزال العلاقة مع إيران في الحد الأدنى من المرونة السياسية بعد كل هذه السنوات التي خلقت إرثا ثقيلا من الأزمات والملفات السياسية.

[email protected]