على أي كوكب يعيش أوباما؟

TT

آخر أخطاء السياسات الأميركية القرار الأخير بإنقاص الدعم العسكري لمصر، خاصة أن القوة الوحيدة الباقية الآن لحماية أقدم دولة في التاريخ هي الجيش المصري.

حماقة، وليست غلطة (mistake). الفارق بين الغلطة والخطأ، أن الغلطة تقع للمرة الأولى لسوء التقدير أو انعدام الخبرة ويصعب تلافيها، بينما الخطأ (error) يمكن تلافيه، ويتكرر نتيجة الاستناد إلى تحليل خاطئ للمعلومات: خطأ تقسيم الإسلام السياسي (هدفه النهائي هدم الدولة القومية وتأسيس خلافة عالمية) إلى إرهابيين ومعتدلين يمكنهم، إذا وصلوا للحكم، كبح جماح الجهاديين.. وخطأ إدراج الإخوان «كمعتدلين» - رغم ثبوت أن الإخوان يعملون بالجناحين، السياسي والإرهابي.

خطأ مساء الأربعاء بتعليق الدعم العسكري يخالف توصيات الخبراء العسكريين الأميركيين أنفسهم، وسيلحق الضرر بالمصالح الأميركية، قبل المصرية، على المدى الطويل في منطقة الشرق الأوسط برمتها.

جاءت تحليلات خبراء العسكرية الأميركية بعد ارتفاع أصوات لا يمكن وصفها بالحكمة، كالسيناتور ماكين، بقطع الدعم العسكري للجيش المصري. الدعم يتجاوز تثبيت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية برعاية أميركية (الانطباع الظاهر بسبب التغطية الصحافية السطحية) إلى سببه الأصلي وهو دعم الاستراتيجية الأمنية الأميركية الممتدة من البحر المتوسط إلى الخليج والقرن الأفريقي والمحيط الهندي، ثم أفغانستان بعد أحداث 2011.

وقبل مبادرة السلام وزيارة الزعيم المصري الراحل أنور السادات للقدس عام 1977، تغيرت الموازين الاستراتيجية بقرار مصر التحول من المعسكر الشيوعي إلى معسكر العالم الحر أثناء احتدام الحرب الباردة؛ وهو حلم أميركي منذ تأسيس النقطة الرابعة في خمسينات القرن الماضي. وراهن عليه الرئيس داويت أيزنهاور خارقا مبدأ استراتيجيا بالتخلي عن الحليف التاريخي البريطاني ودعم نظام الرئيس عبد الناصر، رغم ضعف الموقف القانوني المصري في أزمة السويس التي أشعلها الزعيم المصري عام 1956.

كان حلم الأميركيين إحياء محور القاهرة – الرياض، قاعدة تأسيس الجامعة العربية عام 1946 بمبادرة ثنائية بعد استضافة فاروق الأول ملك مصر والسودان، للملك عبد العزيز بن سعود مؤسس المملكة العربية السعودية، في زيارته التاريخية لمصر.

مناورات «النجم الساطع» المشتركة هي جزء من استراتيجية الناتو منذ مطلع الثمانينات والعهد لمصر بمسؤولية أمن جنوب المتوسط والبحر الأحمر (وليس إسرائيل لأن لها حساباتها الخاصة، وعدم اطمئنان العرب لمشاركتها).

ما تحصل عليه أميركا سنويا من عائد اقتصادي ومادي (في ميزانية الدفاع) يفوق أضعاف هذا الدعم، حسب الخبراء العسكريين الأميركيين.

لسفن البحرية الأميركية أولوية المرور في قناة السويس.. فما هي تكلفة الوقود والوقت لو اضطررت للدوران حول أفريقيا ورأس الرجاء الصالح؟ أو إذا انتظرت السفن الأميركية دورها في طابور السفن الأخرى، خاصة في حالات الحاجة لنقل قوات ومعدات إلى المحيط الهندي أو الخليج أو قرب سواحل باكستان؟

وينطبق الأمر على المجال الجوي المصري واختصار ساعات الطيران؛ بجانب التسهيلات والخدمات والصيانة والوقود في الموانئ والقواعد البحرية المصرية على المتوسط والبحر الأحمر، ناهيك عن التعاون النشط في الحرب على الإرهاب.

أما الرذاذ السياسي المتناثر من إلقاء إدارة الرئيس باراك أوباما حجر الحماقة الأخير في بحر العلاقات الاستراتيجية فأكثر ضررا بالمصالح الأميركية من خسائر استراتيجية الدفاع.

المصريون ومعظم العرب انساقوا وراء دعاية اليسار الأوروبي في شيطنة صورة الرئيس السابق جورج بوش، التي اتسمت بالحسم العملي (للأسف لم يكن يجيد البلاغة)، واشتروا كلام الهواء الأجوف المنمق من أوباما العاجز حتى عن إقناع أعضاء الكونغرس بالوصول إلى اتفاق سياسي معه. الرئيس بوش في حربه على الإرهاب كان حريصا أشد الحرص على إبقاء العلاقات حميمة مع مصر، ومع المملكة العربية السعودية، لأنه رجل عملي أقنعه راسمو الاستراتيجية بأنه من دون التحالف مع محور القاهرة – الرياض لا يمكن إنجاح أي استراتيجية أميركية في المنطقة الممتدة من البحر المتوسط شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا إلى بحر العرب شرقا، وسياسة أوباما ستغضب هذه الشعوب على إدارته أكثر من غضبها على سابقه.

التغطية الصحافية غير المسؤولة بمعلومات مغلوطة في الصحافة اليسارية البريطانية والأوروبية كـ«البي بي سي» و«الغارديان» و«اللوموند»، أسهمت بشكل غير مباشر في إطالة الأزمة التي افتعلتها جماعة الإخوان وتفرعاتها الإرهابية في مصر وأدت إلى سقوط مزيد من الضحايا. فقد اعتقد الإخوان من تغطية مؤسسات لها وزنها كـ«البي بي سي» أن المؤسسات السياسية الغربية والرأي العام الأوروبي مع الإخوان ضد الشعب المصري، وأن حلف الناتو سيتدخل، كما فعل في ليبيا، لإعادة رئيسهم محمد مرسي إلى رئاسة مصر. الإشارات الخاطئة من الاتحاد الأوروبي أسهمت بشكل مباشر في زيادة حدة الأزمة ومزيد من الضحايا (تتزامن كل زيارة لممثلة السياسة الخارجية الأوروبية كاثرين أشتون للقاهرة مع تصعيد الإخوان لعمليات العنف والإرهاب)؛ وخطة إحراق مصر وافتعال حرب أهلية (لن تحدث في مصر بسبب الطبيعة الديموغرافية المتسقة) هي جزء من استراتيجية التنظيم العالمي للإخوان لإجبار القوى الغربية على التدخل وتدمير الجيش المصري، لأنه بلا هذا الجيش تنهار الدولة المصرية ويتحقق وعد كبيرهم «طز في مصر»، وتنهار معها المنطقة.

ولذا كان تحرك خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بإرسال إشارة واضحة لواشنطن ولندن وبروكسل، ليس فقط بوقوف المملكة المبدئي إلى جانب مصر، بل بالإسراع بمد محور القاهرة - الرياض إلى الإمارات ودول خليجية، لأن مخطط التنظيم الدولي للإخوان بانهيار الدولة المصرية هو تهديد للأمن الإقليمي كله من المتوسط حتى الخليج والمحيط الهندي.

وقرار إدارة الرئيس أوباما في تخفيض أو تعليق الدعم العسكري إشارة أخرى ستدفع بالإخوان إلى العناد وتصعيد عملياتهم الإرهابية والاعتداء على مؤسسات الدولة وعلى بقية الشعب المصري، وهو ما لا ولن يغفره الشعب المصري والشعوب العربية الصديقة. فالحرب على الإرهاب ليس فيها حل وسط أو تنازلات، ومطلوب من أوباما تحديد موقفه، والمصريون يكررون سؤال رئيس أميركا «في الحرب على الإرهاب: أأنت معنا.. أم ضدنا؟». ولم أجد قولا أكثر تناقضا مع نفسه هذا الأسبوع من قول المتحدث الأميركي الرسمي مطالبا القاهرة بأن تعكس إرادة الشعب!!

ولماذا تحرك الجيش المصري في مطلع شهر يوليو (تموز) وتعرض للمتاعب وتضحيات رجاله على أيدي الإرهابيين الذين زرعهم مرسي في سيناء إن لم يكن ذلك استجابة لإرادة الغالبية الساحقة من الشعب في 30 يونيو (حزيران)؟

ترى على أي كوكب يعيش أوباما وإدارته؟