شهية أوروبا النفطية!

TT

بعد النجاح الاقتصادي المنقطع النظير، والذي فاق توقعات أكثر الناس تفاؤلا، لمنتجات وتجارب استخراج النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة الأميركية (وغيرها من دول العالم وإن كانت التجربة الأميركية هي التي تحظى بالتغطية الإعلامية الأكبر، وبالتالي يتابع عدد هائل من الناس الأثر الاقتصادي لها) انفتحت شهية الأوروبيين للإقدام على القيام بنفس المسألة على أراضيهم. والأمر مغر جدا من الناحية الاقتصادية لقارة تئن جراء أزمة مالية واقتصادية خانقة أصابت الكثير من الدول فيها بالشلل التام، ووضعت دولا أخرى في قبضة الإفلاس، وباتت تحت الملاحظة والرعاية من دول أخرى، فلو جرى الإقدام على هذه الخطوة فستنتعش قطاعات هائلة في الاقتصاد وتسمح بتوظيف الآلاف، ويكون لكل ذلك الأثر الاقتصادي التباعي الإيجابي على القارة كلها بشكل عام.

ولعل أكثر الأصوات المطالبة بسرعة الإقدام على تنفيذ هذه الخطوة المهمة هو صوت رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي جعل هذه المسألة من قضايا حكومته الرئيسية التي يحاول إقناع الرأي العام البريطاني والإعلام والبرلمان بها.

وكما كان الأمر في الولايات المتحدة الأميركية تواجه الحكومة البريطانية معارضة عنيفة جدا من أنصار البيئة الذين يعتبرون التقنية المستخدمة لاستخراج الغاز والنفط الصخري بالتفتيت الهيدروليكي مضرة جدا، بل مدمرة للبيئة والهواء ومصادر المياه الجوفية.

وتقوم جمعيات البيئة بحملات علاقات عامة ودعاية انتقائية وتحذيرية ومحاضرات توعوية للتحذير المتواصل من هذا الأمر، وهو الأمر الذي أدى لتكوين تكتل «رافض» في الرأي العام يظهر بشكل واضح جدا ومؤثر في استطلاعات الرأي العام التي يجري القيام بها لمعرفة رأي الشارع في هذه المسألة العويصة والحرجة.

وما يقال عن موقف جماعات البيئة في بريطانيا يقال عن أضعاف مضاعفة في سائر القارة الأوروبية، وخصوصا في عاصمة الاتحاد الأوروبي العاصمة البلجيكية بروكسل التي لا تمل ولا تكل تكرار رفضها للإقدام على هذا الأمر لنفس الأسباب المذكورة، ومن منطلق موقعها كحكومة مركزية تهتم بشؤون دول أعضاء فيها يبلغ عددهم 28 دولة، مما حول بروكسل أخيرا إلى مركز جذب ونقطة ارتكاز لأكبر مكاتب المحاماة العالمية، وخصوصا الأميركية المتمرسة منها في مسائل وشؤون قوى الضغط «Lobbying» لصالح أهم العملاء الكبار الذين يتابعون تطورات هذه المسألة الاقتصادية البالغة الأهمية، وهم شركات النفط العملاقة التي «عسكرت» بالعاصمة البلجيكية منذ فترة، شركات كبرى مثل «شيفرون» و«ستاتويل»، وهما وغيرهما يحاولان القيام بالتأثير على صانعي القرار السياسي الأوروبي بإعادة صياغة موقف القارة إزاء النفط والغاز الصخري وتبيان «مزايا» و«فوائد» كل ذلك مقابل «المخاطر» التي يؤكدون في طرحهم دائما أنها غير «مثبتة» وأيضا «مبالغ فيها»، وهي نفس الحجج التي كانت تطرح من ذات الشركات حينما تواجه بمسألة ثقب الأوزون والاحتباس الحراري والأضرار التي تسببت فيها شركات النفط وساهمت في اتساع رقعة المشكلة وصعوبة معالجتها وتبعاتها الاقتصادية التي يعاني منها العالم بشكل هائل حتى اليوم.

دول الاتحاد الأوروبي كاقتصاد موحد ومجتمع بإجمالي ناتجها العام تشكل أكبر اقتصاد في العالم، ولذلك بات لبروكسل المكانة المهمة والمؤثرة التي باتت نقطة جذب لخبراء وقوى الضغط المتمرسين في العاصمة الأميركية واشنطن بذات التحديات والمواجهات والمصاعب، خصوصا الذين يمثلون الشركات الكبرى المتعددة الجنسية التي يكون نشاطها الرئيسي بشكل رئيسي عابرا للحدود، ولكن كل هذا «الحراك المحموم» وأسلوب «رعاة البقر الهمج»، بحسب وصف بعض الساسة الأوروبيين له، لم يكن من دون ردود فعل غاضبة جدا وسلبية جدا، إذ إن الكثيرين من الأوروبيين يعدون ذلك محاولة رخيصة «للبلطجة» و«دفع الأمور بالقوة» حتى وإن كانت الحجج مقنعة، فإن الأسلوب يظل منفرا وبغيضا ومكروها جدا لديهم.

هناك من يعتقد أن المعركة «السياسية» للموافقة على التنقيب الصخري للنفط والغاز لن تكون سهلة لوجود وعي بيئي راسخ وقديم في أوروبا، وبالتالي ستكون هذه قوى معارضة لا يمكن التغلب عليها، بالإضافة إلى الأسلوب «الهمجي» المنفر لهذه المسألة، وهناك من يرى أن الضرورة تبيح المحظورات، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الوضع الاقتصادي والمالي الحرج والدقيق الذي تمر به القارة الأوروبية اليوم والمرشح أن يستمر فترة ليست بالقصيرة سيجعل القائمين على القرار السياسي يغضون الطرف عن كل المسائل الأخرى بشكل مفاجئ للكل.

سوق النفط والغاز إلى مزيد من التغيرات والتقلبات، وكل ذلك ستكون له أبعاد اقتصادية والية تصل نتائجها إلى العالم بأسره.