بروباغندا التجسس

TT

الأفعال السيئة تصبح أكثر سوءا حينما تنكشف. هذا أبلغ وصف لحالة الحرج التي تعيشها الولايات المتحدة بعد أن افتضح أمر عمليات التجسس التي نفذتها ضد حلفائها الأوروبيين، إضافة إلى حجم عمليات التجسس الضخمة ضد العراق والهند وباكستان وغيرها، بحسب ما نشره موقع جريدة «إيلاف» الإلكترونية.

التجسس في حد ذاته عمل مكروه، وينم عن سوء في النوايا والسريرة، لكنه شر لا بد منه في عرف السياسيين والمسؤولين الأمنيين، حفاظا على الأمن القومي وحماية له من التحولات المفاجئة في مواقف وسياسات الدول الأخرى، كما أنه مفيد في رسم الاستراتيجيات وإعادة الحسابات وبناء التحالفات. ولئن كان التجسس على الأعداء أمرا معروفا منذ التاريخ، فإن العالم يقف مشدوها كيف لإدارة الرئيس الأميركي أوباما أن تتجسس على أصدقائها، بل وأقرب الأصدقاء كتنصتها على الهاتف المحمول للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي حينما هاتفته معاتبة رد عليها بأنه لم يكن على علم بحادثة التجسس! ومع غرابة الرد، فإن أوباما قد يكون صادقا هذه المرة، فأجهزة الاستخبارات وبعض إدارات وكالة الأمن القومي الأميركية تضطلع بأعمالها ذاتيا بمنأى عن البيت الأبيض جملة وتفصيلا، إنما يبقى من المحرج لأوباما أن يظهر بمظهر الزوج المخدوع الذي تجري الأمور من تحت قدميه وهو لا يعلم.

القضية ليست من يتجسس على من، وليست أن الدولة العظمى تجد لنفسها الحق حصريا في التجسس على الدول الأخرى، فالواقع أن كل الدول تتجسس بصمت. إنما المشكلة في الحرج الذي يتبع الكشف الإعلامي عن مثل هذه الممارسات. هذا الحرج يتم التعامل معه بالتنديد والتصعيد من ضحايا التجسس، والتظاهر بأنه عمل صادم وغير مقبول من الأصدقاء وقد يؤثر على العلاقات بين البلدين. إنما في حقيقة الأمر أن الضحية الألمانية نفسها ليس بمقدورها أن تؤكد للعالم أنها لا تمارس هي الأخرى التجسس على أميركا أو فرنسا أو إسبانيا أو تركيا أو غيرها من الدول، ولكن مع ذلك عليها أنها تبدو غاضبة من هذا التطفل الفج على هاتفها المحمول، وتماشي أوروبا التي غضبت لغضبتها. ما يثير القلق في هذه القصة أن «إدوارد سنودن»، المستشار ومحلل المعلومات سابقا في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والهارب إلى روسيا، هو من كشف فضيحة تجسس واشنطن على مواطنيها وعلى أصدقائها في الخارج، مع التخوف من أنه لا يزال يحتفظ في جعبته بأكثر مما أظهر، وهو هناك في روسيا يمارس الابتزاز ويربك إدارة أوباما، والعالم بدوره لا يعرف على أي فضيحة يصحو في صباح اليوم التالي.

قد يخفف من حنق الألمان ضد أوباما أن أشهر فضائح التجسس حصلت من إسرائيل ضد حليفتها وراعيتها أميركا، على الرغم من العلاقة التاريخية والاستراتيجية الوثيقة بينهما، ورغم أن الموساد متغلغل في أجهزة أميركية أمنية حساسة وليس بحاجة لزرع خلايا تجسس من الخارج. مع ذلك كان ملاحظا أن الكثير من عمليات التجسس الإسرائيلية تم تجاوزها من قبل الإدارة الأميركية والتعامل معها بكثير من الهدوء بعيدا عن أعين الصحافة، ومثلها الكثير من العمليات بين دول مختلفة تتم التفاهمات حولها بسرية وغالبا لا تتجاوز تمرير رسائل عتب.

ما تثيره ألمانيا وخلفها دول الاتحاد الأوروبي حول اتفاقية تتعهد فيها دول الاتحاد والولايات المتحدة الأميركية بحظر تجسسها على بعضها، هو مجرد بروباغندا إعلامية لا قيمة ملموسة لها على الأرض، ولا فائدة مرجوة منها سوى حفظ ماء الوجه أمام العالم، وتسجيل موقف ضد التنصت واعتراض اتصالات الدول ومسؤوليها، إنما لن يتسبب ذلك في وقف العمل الاستخباراتي المبني أساسا على الرصد والمتابعة والتوغل في شؤون الدول الأخرى. أي أن دعاية التوقيع على هذه الاتفاقية هي للتجمل ولملمة الموقف وليست ملزمة لأحد في نهاية الأمر.

أما التجسس على الخصوم فيتخذ منحى آخر، لأن الهدف منه الإضرار المباشر بالحالة الأمنية للدولة الضحية والتخطيط لما هو أبعد من الحصول على المعلومات، خاصة إن جاء من دول لها سوابق في الاعتداء وتعد مثارا لقلق العالم كإيران التي ثبت تورطها في شبكة تجسس في السعودية العام الماضي هدفت لجمع معلومات عن منشآت حيوية. في حالة كتلك الحالة تبادر الدولة المستهدفة بالكشف عن هذه الخلايا إعلاميا بهدف الإعلان عن إحباط خطة التجسس وأيضا لحشد إدانة دولية ضد الدولة المعتدية.

في النهاية، لن يكون مقبولا أن تحشر دولة أنفها في صندوق أسرار دولة أخرى، ولكن إن حصل ووقعت الواقعة فقد يغسلها اللوم والعتب بين الأصدقاء، لكنها بين الخصوم عمل يضاف إلى سجل الحسابات.

[email protected]