«اللؤلؤة السوداء» لمن؟

TT

على مدى تجاوز ربع قرن كثيرا ما أضبط نفسي رافضا لنتائج لجان تحكيم المهرجانات حتى تلك التي أشارك في عضوية لجان تحكيمها، قبل أيام أعلنت جوائز مهرجان «أبوظبي» في دورته السابعة وحصل الفيلم الصيني «لمسة الخطيئة» على الجائزة الكبرى «اللؤلؤة السوداء»، بينما كنت أرى أن البوسني «جامع الخردة» الذي لم يأت اسمه أبدا في أي جائزة هو الأحق باللؤلؤة.

إلا أن السؤال من يملك الرأي الصائب والمطلق في التقييم؟ في الحقيقة لا أحد.. العديد من النظريات العلمية التي استقرت نتائجها أطلت علينا بعد عدة سنوات نظريات أخرى تتناقض معها، وإذا كان الحال كذلك في العلم الذي يستند إلى معايير ثابتة لا تعرف المشاعر، فما بالكم بالفن الذي تتعدد فيه زوايا الرؤية وأوجه التقييم؟!

لا توجد قواعد مطلقة في الإبداع الفني كما أنه لا توجد أيضا قواعد ثابتة في التقييم، وهكذا مع تغير أسماء لجنة التحكيم يتغير مؤشر اتجاه الجائزة.

لا يمكن أن تعثر على مبدع ديمقراطي، ينصت للرأي والرأي الآخر، الإبداع بطبعه لا يعرف سوى الرأي الواحد، على الجانب الآخر فإن الجمهور الذي يستقبل هذا الإبداع هو أيضا ديكتاتور ينحاز إلى تذوقه الشخصي.

الإنسان عادة يتنازعه في استقبال الفنون عاملان، قناعاته الشخصية وتوجهات الأغلبية، هناك قدر من العدوى لا شك أنها تلعب دورها في توجه الجمهور إلى نوع أو فنان بعينه، رغم أن المتلقي لا يعترف عادة بأنه صدى للآخرين.

لا شك أن نظرية «الطابور»، لاحظ أنني لا أستخدم تعبير «القطيع» لما تثيره من تداعيات لا تعبر بدقة عن المعنى الذي أقصده، الطابور هو مؤشر لانحياز الأغلبية إلى الفن السائد الذي تعارف عليه الناس وصاروا يتذوقونه بقصد أو من دون قصد، والفن السائد لا يعني أنه الأقل شأنا أو قيمة، ولكن من سماته أنه يستخدم نوعا من المفردات غالبا ما تشعر المتلقي بالألفة، فهو يعرف تفاصيلها سلفا ويملك كل مفاتيحها.

«الإنسان عدو ما يجهل».. مقولة لأرسطو، ولهذا يتجه الإنسان لا شعوريا لما يعرفه، إلا أنه في كل الأحوال ينصت بداية إلى رأيه ويتمنى أن يصبح هذا الرأي معبرا عن الأغلبية التي وقفت قبله في الطابور!

وفي تلك المعادلة بين الفن والجمهور تقف مجموعة أخرى.. إنهم لجان التحكيم المنوط بهم أن يقيموا الإبداع.

إلى من ينحاز القاضي؟ إلى الحق بالطبع، ولكن هل يوجد في الفن حق وباطل؟ هل هناك معايير صارمة؟ كل القواعد التي حاولت تقييد الفن عبر العصور تم القفز فوقها من خلال مبدعين آخرين ليصنعوا على أنقاضها قواعد جديدة تخلق نمطا مختلفا، وهكذا نرى الفن في حالة تمرد دائم.

أن يحصل فيلم ما على جائزة من خلال لجنة تحكيم ينبغي ألا يجعلنا نعتقد أنه سوف يظل يحظى بتلك المكانة من مهرجان إلى آخر، بل إنه أحيانا عندما يحصل فيلم على جائزة ويشارك في مهرجان آخر، تلاحقه في هذه الحالة التساؤلات عما هو المختلف والاستثنائي الذي دفع لجنة التحكيم إلى منحه تلك الجائزة، تماما مثلما يجري اختيار ملكة جمال العالم، فإن أول ما يواجهها هو عيون الناس التي تتعجب قائلة كيف رصعوها بتاج الملكة؟!

هذه الدورة منحت لجنة تحكيم مهرجان «أبوظبي» أيضا جائزة أفضل فيلم عربي، إلى «تحت رمال بابل» للمخرج العراقي محمد الدراجي، بينما حصل الجزائري مرزاق علواش عن فيلمه «السطوح» على جائزة أفضل مخرج عربي. قناعتي أن «السطوح» هو الجدير بجائزة أفضل فيلم عربي، ولا أملك سوى أن أسجل هذا الرأي على الورق!