ياسر عرفات يسابق مستر كيري

TT

قضية مقتل ياسر عرفات لا تزال في أولها. الرجل الذي قضى حياته مناضلا مشاغبا، يقلق أصدقاءه قبل أعدائه، ها هو قادر، من قبره، على إثارة كثير من الغبار، في لحظات حساسة وحرجة، قد تغير مجرى الأحداث. فلبعض الموتى من السطوة والحضور، أحيانا، ما ليس لأصحاب السلطة والنفوذ من الأحياء. ففي الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، يقوم بجولاته المكوكية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس، في محاولة لضخ الحياة في عملية السلام المشلولة منذ ثلاث سنوات، تصدر خبر تقرير الخبراء السويسريين، واكتشافهم لمادة البولونيوم المشعة، بمعدلات كبيرة في رفات ياسر عرفات، كل ما عداه.

صحيح أن السلطة الفلسطينية لم تربط بين هذا الخبر، الذي يشير بأصابع الاتهام إلى إسرائيل، ولم تهدد بأي موقف تجاه المفاوضات، إلا أن هذا التقرير السويسري ليس إلا أول الغيث. فهناك التقرير الروسي الذي يبدو أنه سُلّم إلى السلطة الفلسطينية. وحول الفحوصات الجارية على الرفات تجري استشارة أحد الخبراء الجنائيين الكبار في بريطانيا أيضا، كما أن القضية التي رُفعت أمام المحاكم الفرنسية ستجد في التقرير السويسري المعتمد على تحاليل أجريت في عدة مختبرات عالمية مستندا قويا، للانطلاق نحو تحقيق قد لا تظهر نتائجه سريعا، لكنه سيدخل الجميع في مسلسل من المفاجآت التي لن تنتهي في وقت قريب.

وإذا صدقنا كلام سعد جبار، منسق هيئة الدفاع في قضية وفاة عرفات، فإن أمر مقتل عرفات قد جرى التستر عليه عام 2004 بتواطؤ مشترك بين السلطات الفرنسية، التي مات عرفات في أحد مستشفياتها العسكرية «بيرسي» والسلطة الفلسطينية، التي كانت لحظة الوفاة تأمل بالوصول إلى نتائج إيجابية فيما يخص عملية السلام، ولم يكن أحد من اللاعبين الدوليين يرغب في تضييع فرصة تاريخية حينها. كلام خطير للغاية في حال ثبتت صحته.

سهى عرفات لا تهاجم السلطة، لكنها لا تنتظرها أيضا، وتبدو وكأنها هي المعنية الأولى، وربما الوحيدة، بالبحث الجدي عن سبب الوفاة، وكأنما الرجل لم يكن رمزا كبيرا وقائدا تاريخيا، طوال نصف قرن، لشعب لا تزال قضيته تهز وجدان العالم.

السلطة عينت لجنة، وتقول إنها تدرس في مختبراتها التقريرين السويسري والروسي، وتنتظر باقي النتائج، دون أن تستعجل التعليق والتصعيد. وفيما عدا بعض المطالبات الشفهية، التي لا نعرف مدى جديتها، من مسؤولين فلسطينيين بفتح تحقيق دولي بحادثة الوفاة، لم نسمع تعليقا رسميا يُذكر.

الخوف على مفاوضات هشة يصطدم في كل مرة بآلاف الوحدات الاستيطانية، وبشرط الدولة اليهودية التعجيزي، وبرفض عودة اللاجئين والتشبث الإسرائيلي بالقدس الشرقية. هي مفاوضات لا أفق لها، ولا معنى، وتقديمها على قضية عرفات، في كل مرة، أمر يُعاب على المسؤولين الفلسطينيين، ويثير الحزن والشجن. ففيما تداري السلطة وتخفض الصوت، حرصا على ما تبقى من أمل، لا يخجل نتنياهو من إضافة شرط جديد آخر منذ أيام، تحت عنوان «الحدود الأمنية لإسرائيل»، قائلا بعدم استعداد إسرائيل للانسحاب من غور الأردن، لا. بل إنه يهدد ببناء المزيد من الجدران.

تعود قضية اغتيال عرفات إلى الواجهة، في اللحظة التي أراد فيها العرب ليس تجاهل الوجود الإسرائيلي فقط، بل نسيانه بالكامل، والالتفات إلى مشكلاتهم ومجازرهم الأخوية اليومية. كم هو مزعج أبو عمار! وكم يبدو ثقيل الظل، حين يطل فجأة، بعد أن تمنى كثيرون لو يُطمر اسمه تحت سابع أرض!

لا غرابة في أن تكون إسرائيل هي التي قتلت عرفات، بل العجيب ألا تكون هي من اغتالته، وهو الذي بقي آخر سنوات حياته تحت حصار إسرائيلي كامل، يفتش جنود الاحتلال طعامه وخبزه، ويتحكمون برشفة الماء التي يشربها.

إسرائيل قتلت الرائع غسان كنفاني، ونفّذت عشرات الاغتيالات في حق كبار القادة الفلسطينيين. وما حدث لعرفات يذكّر بمحاولة اغتيال خالد مشعل من قبل إسرائيل بسم غريب في عمان، عجز الأطباء عن شفائه، ولم يحصل ملك الأردن الحسين بن طلال يومها على المصل المضاد له من الإسرائيليين أنفسهم، إلا بالتهديد بإلغاء اتفاقية السلام. وهو ليس بعيدا عما أصاب وليد حداد القيادي في الجبهة الشعبية عام 1978، حيث قضى بطريقة غامضة، تبين فيما بعد أن سما دُسّ له في الطعام. ولا داعي للتذكير باغتيال القيادي في حماس محمود المبحوح بسم دس له أيضا في فندقه في دبي.

التنازلات العربية لم تُفضِ طوال 50 سنة إلى أي شيء، والصوت الفلسطيني الخفيض، كما السكوت سابقا، على قضية قتل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، لم يعطِ للشعب الفلسطيني شبراً واحداً.

إسرائيل لن تتخلى عن تعنتها وصلفها من غير الضغط والتهديد والقوة. وإذا كان العرب لا يجيدون استخدام السلاح إلا ضد بعضهم بعضا، فليستخدموا، ضد عدوهم التاريخي الذي بقوا أرحم به من أنفسهم، ما ينصحهم به يوري أفنيري. فقد صار الرجل في التسعين، وقضى عمره إسرائيليا من داخل المؤسسة الرسمية له صوت يساري مختلف. فقد قال أفنيري، منذ أيام، إن الحكومة الإسرائيلية لن تقدم تنازلات في مفاوضات السلام إلا بالحرب، أو خوفا من الخلل الديموغرافي لمصلحة الفلسطينيين، أو تحت ضغط عزلة دولية كبيرة. وهنا لا بد من التذكير بأن ثمة تحالفات جديدة وخرائط تركب في المنطقة، وربما ليس هذا هو الوقت المناسب لتتجاهل السلطة ورقة مقتل عرفات، بل لتستخدمها وتقوي موقعها التفاوضي مع إسرائيل، حتى ولو أغضب ذلك مستر كيري.