الشرق الأقصى يتربع في الأوسط

TT

لو كان هناك حائز وحيد لمغانم الربيع العربي، فإنه لن يكون الشعوب الثائرة، ولا أنظمة الحكم البديلة، ولا حتى الجماعات المتطرفة الانتهازية، إنما هو حتما روسيا فلاديمير بوتين، القادمة من أقاصي الشرق يقودها رجال قضوا جل عمرهم في العمل الاستخباراتي، مسجلين انتصارات سياسية مذهلة في أكثر مناطق النزاع حرارة في الشرق الأوسط؛ سوريا ومصر.

أما فيما يخص ليبيا فقد هزأ بوتين بالأوروبيين بسبب ما آلت إليه الأوضاع هناك، مذكرا إياهم بأن تدخلهم العسكري أوصل الأمور إلى ما هي عليه اليوم من صراعات قبلية، وتصعيد سياسي وسوق تسلح واسعة، مع أن الحقيقة أن التدخل العسكري أنقذ ليبيا، وعدم التدخل السياسي بعد سقوط القذافي هو ما قذف بالدولة الوليدة الغضة بين براثن التطرف. إنما بوتين المراوغ يستثمر بدهاء كل فشل غربي كتوطئة لاستعادة مكانة روسيا في المنطقة العربية.

بوتين كذلك أعاد توزيع ورق اللعب على طاولة المفاوضات السورية، ووضع استراتيجية منذ اليوم الأول لاشتعال الأزمة بأن الإصرار على مساندة النظام هو ما سيجعل روسيا المتحكم الرئيس في مصير واحدة من أهم الدول العربية، ولها اليد العليا فوق كل الأيادي، وهو ما لم تتراجع عنه قيد أنملة رغم الجهود الدبلوماسية والسياسية المكثفة، ورغم محاولات ثنيها عن حماية نظام افتضح أمر إجرامه على الملأ.

أما مصر التي يكثر الحديث حول إعادة علاقتها مع روسيا إلى مجاريها فهي من أكبر أهداف الروس، الذين كسبوا رضا الشارع المصري بعد عزل مرسي بكثير من الذكاء، مرحبين بفشل مشروع العلاقة بين الولايات المتحدة وجماعة الإخوان المسلمين الذي هوى بمستقبل «الإخوان» في مصر وغزة وسوريا والخليج وأعاده إلى نقطة الصفر التي تجاوزوها منذ 80 عاما. في الشارع المصري حتى الإنسان البسيط يكبر الموقف الروسي ويرحب باللقاء المنتظر بين وزراء خارجية ودفاع البلدين المتوقع منتصف هذا الشهر. وليس في هذا خذلان للسوريين الذين يناضلون لإسقاط نظام بشار الأسد المستقوي بالروس، إنما هو تسجيل تقدير لأي جهة وقفت مع مصر في محنتها ودفعت عنها شبح الحرب الأهلية.

علينا أن لا ننسى أن يوم 30 يونيو (حزيران) كانت مصر في امتحان عسير لم تتجاوزه عندما انحاز الجيش لإرادة الجماهير، بل حينما هدأت المواقف الدولية ضد العسكر وقرروا منحهم فرصة من خلال خارطة الطريق المعروفة، فالجيش المصري رغم صيته التاريخي لن يستطيع وحده أن يؤسس لدولة حديثة مستقرة، خاصة بعد أن كان أداة لسقوط نظام حكم جاء بانتخاب شعبي. ومع رصد الغرب لتمرحل خارطة الطريق والجدول الزمني لإنجاز الدستور والانتخابات البرلمانية والرئاسية، تفاوتت ردود الفعل الدولية، واشنطن مثلا أظهرت تشككها في وعود العسكر، وهذا الارتياب دفعها لوقف المساعدات العسكرية الرمزية لمصر، وسكوتها عن الإرهاب المنظم في سيناء الذي تفجر بعد عزل مرسي. في هذا الوقت الحرج الذي تحتاج فيه مصر إلى قوة دولية تساند القوة العربية، أطل الروس متحفزين متأهبين لعلاقة استراتيجية تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ففتحت مصر ذراعيها بترحاب، ليس فقط نكاية بواشنطن التي خذلت المصريين، ولكن أيضا لأهمية الدور الروسي المتزايد في المنطقة العربية.

وأيا كانت هذه المصالح المشتركة، سواء كانت عسكرية أو لوجيستية فهي ذات أهمية قصوى للبلدين في ظل ظروف تقسيم مناطق النفوذ بعد ثورات الربيع العربي، والمساحات الخاوية التي تركتها واشنطن في مصر بعد رهانها الفاشل على حكم «الإخوان المسلمين»، إضافة إلى أن الموضوع السوري لا يمكن ضمان استمرار حالته الرمادية كما نراها اليوم، حتى في أسوأ السيناريوهات؛ إن انهارت المعارضة وظل نظام بشار قائما، فهذا لن يمنع الروس من أن يكون لهم موضع قدم في أكبر دولة عربية كمصر بجهود «السيرغيون» الثلاثة؛ سيرغي لافروف وزير الخارجية، وسيرغي شويجو وزير الدفاع، وسيرغيو بيشينكو، سفير روسيا في القاهرة.

مصر لم تبع أميركا وتشترِ الروس كما يقال، قد تفتر العلاقة بين القاهرة وواشنطن، لكن أهميتها الاستراتيجية لكلا البلدين باقية، لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها، إنما أولوية المرحلة الانتقالية في مصر هي استقطاب الحلفاء وبناء الشراكات. بوتين كان مرادا في مصر، لأنه وقف مع الإرادة الشعبية، وكان على عكس ذلك في سوريا، لأنه وقف ضد نفس الإرادة، هاتان عينان تنظران إلى الرجل نفسه، إنما بحسب زاوية الرؤية، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها أن كل ما حازه الروس من غنائم كان في مناطق التخاذل الأميركي.

إن عودة الروس إلى الشرق الأوسط في ظل أنظمة متضعضعة، وشارع غير مستقر، وموقف أميركي متردد، هي بمثابة عودة المحارب منتصرا من معركة مصيرية. وإن كان لنا على التحرك الروسي تحفظات متعلقة بالانتهازية السياسية والمتاجرة بدماء الأبرياء، إلا أنه تحرك مثير للإعجاب؛ كونه يملك رؤية يحقق أهدافها بكل اقتدار.