أميركا وإيران.. كره المحب!

TT

الحديث عن صفقة أميركية إيرانية هو حديث قريب إلى الجدية، كلتا الدولتين تحتاج إلى هذه الصفقة، بأقل قدر من التنازلات إن أمكن. الولايات المتحدة بسبب مجموعة معقدة من العوامل ترغب في أن ترى مخرجا (مشرفا) لمنع التسارع في العد التنازلي الإيراني باتجاه شيء ما من التمكن من قدرة نووية عسكرية، وإيران لأسباب معقدة أخرى، ترغب بأن تمتنع في الربع ساعة الأخير عن تحقيق تلك النتيجة لأسباب اقتصادية واستراتيجية خاصة بها من أجل رفع الحصار عنها من جهة، والاعتراف النهائي بنظامها من جهة أخرى، فنعومة التعامل بين الطرفين هي نعومة المضطر لا نعومة المقتنع.

مما تسرب حتى الآن أن مشروع الخطوط العريضة أو ما يسمى بـ«المخطط الأزرق» لأفكار الصفقة ليس فيه الكثير من الجديد، فقد كان معروضا من إيران ومقبولا من الغرب، قبل وصول أحمدي نجاد إلى الحكم في إيران، بل منذ 10 سنوات على وجه التحديد، وتعطل المشروع بسبب مجموعة من المتغيرات، منها احتلال الولايات المتحدة للعراق، والقلق الذي انتاب إيران جراء ذلك، ثم عادت الفكرة إلى الظهور من جديد.

يرى البعض أن «المخطط الأزرق» الجديد للصفقة هو من منظور غربي يحقق أقل مما عرض قبل أكثر من عقد، إلا أن القبول الغربي به الآن منقوص، بسبب مجموعة السياسات التي تبنتها الإدارة الأميركية الحالية، وليس بخاف أن السيد علي خامنئي قد وجه بالاستفادة من وجود الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، كما أكدت لي شخصية إيرانية مطلعة.

الصفقة تهتم، من المنظور الغربي، بالحد من حصول إيران على قدرة نووية عسكرية، فقط لا غير، مع مشهيات غربية كثيرة، منها تخفيف الحصار الاقتصادي، ومنها إطلاق ما تجمد من الأرصدة الإيرانية، ومنها أيضا التعهد المبطن بعدم محاولة الانقلاب أو المساعدة على انقلاب داخلي إيراني!

المخاوف العربية وخصوصا الخليجية من هذه الصفقة تعمقت، بعد أن تسرب جزء منها إلى الدوائر المطلعة، أولا لأنها مفاوضات خالفت القاعدة الدولية المتبعة، وهي إشراك دول الجوار فيما يدور لأنها معنية مباشرة به، كما كان إشراك دول الجوار في المفاوضات مع كوريا الشمالية حول نفس الغرض، وهو التخفيف من الخطر النووي، وثانيا، لأن إيران قابضة على الحراك السياسي في أكثر من بلد عربي، لبنان وسوريا والعراق لها تدخل مباشر، وهي محركة لجزء من الاضطراب السياسي، بل والعسكري في اليمن والبحرين بشكل غير مباشر، فالـ10 سنوات الأخيرة أتاحت لإيران أن تمد وجودها ونفوذها في الخاصرة العربية.

وكان «المخطط الأزرق» للصفقة قبل 10 سنوات يعالج التدخل الإيراني في تلك المناطق التي لها نفوذ فيها معالجة جذرية، وقتها كانت محصورة في لبنان، وفي مشروع المخطط الجديد، أرجئ الحديث عن علاج للقضايا المصاحبة، بعد أن كبرت، إلى وقت آخر، عندما تبنى الثقة بين الأطراف كما يقول مبررو الصفقة الجديدة. معنى ذلك أن يستمر الوجود والنفوذ الإيراني المباشر في تلك المناطق التي كسبتها في العقد الماضي زيادة على ما كان لديها.

في لبنان يقبض حزب الله المؤتمر بقرارات طهران، على الوضع السياسي برمته، ويهمش بقوة السلاح والمال القادم من إيران كل الفرقاء اللبنانيين الآخرين، بل ويضعهم أمام خيارات صعبة؛ إما الطاعة أو التصفية السياسية أو حتى الجسدية، وتبقى الدولة اللبنانية رهينة الحزب، تظهر فيها كل أعراض الدولة الفاشلة. في سوريا يشوي النظام السياسي السوري جلود السوريين بالقنابل الحارقة، ويهدم منازلهم على رؤوسهم، ويقتل أطفالهم في المدارس، بالمال والسلاح والدعم الإيراني، طبعا بجانب الدعم الروسي، وفي العراق يقوم فريق صغير في السلطة بالتحالف مع إيران مخضعا مقدرات العراق لأهواء السياسة الإيرانية، فيجري تهميش الآخرين في الوطن، واستباحة المال والدم العراقي منتهيا بدولة فاشلة أخرى. وتتناقض السياسة الإيرانية مع نفسها عند القول، إنها تدعم فريقا في البحرين مثلا من أجل إصلاحات (ديمقراطية ومشاركة) في الوقت الذي تشجع، بل تأخذ على عاتقها، إسكات المطالبين بالديمقراطية والمشاركة في كل من لبنان والعراق وسوريا، هذا التصرف الذي يراه البعض غير أخلاقي بجانب خطئه السياسي، يجد له مبررا لدى النخبة الإيرانية، حيث المهم عندهم «اعمل بالتكليف ولا تنتظر النتيجة»!

ثم يأتي وزير الخارجية الإيراني في مسيرة إطلاق حملة علاقات عامة ليقول لمحطة الـ«بي بي سي» الإنجليزية أخيرا، إن إيران متخوفة من صراع منطلق في المنطقة عنوانه «الاقتتال الطائفي» وإنه تحدث مع العراقيين والأتراك من أجل احتواء هذا التوجه! ولا أدري كيف يستطيع أحد أن يكبح جماح عاطفة غضب من لدن العرب عندما يشاهدون على التلفاز يوميا أجساد السوريين وهي تحرق بـ«النابالم» المدفوع ثمنه من الخزينة الإيرانية! أو اشتراك فيالق حزب الله في قتل السوريين، لقد حولوا بسياساتهم إيجابية التنوع في منطقتنا إلى تنابذ، كانوا المتسببين فيه ومشعلي فتائله، وأيضا أول المشتكين للغرب منه!!

إذن التخوف والتشكيك في مشروع الصفقة الأميركية والإيرانية القادمة له ما يبرره لدى شعوب عربية وخصوصا في الخليج، ترى أن تلك الصفقة سوف تكون على حساب مصالح هذه الشعوب الاستراتيجية، علما بأن النخبة الإيرانية، وخصوصا العسكرية، لا تخفي ثاراتها عند دول الخليج، حيث ترى أنها في وقت ما ساعدت النظام العراقي السابق في حربه ضدها!

ومن جانب آخر فإن المقاطعة الدولية لإيران، إن كانت هي التي نجحت في عودة التفكير الاستراتيجي للمصالحة إلى طهران، يتوجب أن تكون عودة لتغير جل الموقف الإيراني في كل تلك الملفات العالقة، ولا تقتصر على الملف النووي، وهذا لم يحصل!

السيد بان كي مون في لقاء قبل سنوات قليلة في الكويت قال، إنه «لو حدث أن دولة واحدة فقط تخرق المقاطعة الدولية لأي حكومة، تعتبر ثقبا أسود تتسرب منه رياح عدم المقاطعة»، وهذا ينطبق على إيران، فالمقاطعة لها أو الحصار الاقتصادي عليها كان مخترقا من بعض الدول، لذا كان محتملا منها نسبيا، إلا أنها اليوم تشعر بأن موقفها الصلب في مقاومة المقاطعة، هيأ لها فرض القبول بمعظم شروطها على الغرب لحاجة له، وليس استجابة طوعية.

يحث النظام الإيراني الغرب على سرعة التوصل إلى توقيع الصفقة التي تكاد تكون منجزة، لأن الوقت المتاح ونافذة الأمل الممكن، كما تقول الإدارة الإيرانية، يحتمل أن تغلق، من خلال احتمال أن يقوم المتشددون برفض الصفقة، إن لم توقع بعجل، وقد التقطت بعض وسائل الإعلام الغربية هذا الطعم ورددته تكرارا، وهو في الحقيقة يقع في إطار المناورة، لأن الشعوب الإيرانية، لها توق تاريخي للتقرب من الغرب وأميركا بالذات، فموقفها المعادي الطويل للولايات المتحدة، هو موقف يعرفه أهل علم النفس السياسي بأنه «كره المحب» لا «كره المبغض». مثال على ذلك، ما قام به السيد عطاء الله مهاجراني في عام 1994 وكان مساعدا متقدما للسيد هاشمي رفسنجاني، بنشر مقال له في إحدى أكبر الصحف الإيرانية، يطالب بفتح الحوار مع الولايات المتحدة، فانهالت عليه الاتهامات، بل وسيرت ضده المظاهرات وقتها، ولكن أيضا تم الاعتذار منه على المستوى الشخصي من النخبة الحاكمة وليس على العلن، وهو دليلنا، من أدلة غير قليلة، على فكرة «كره المحب». وبعد 20 عاما تمت الاستجابة العلنية لمطالب مهاجراني وغيره، دون كبير ضجة أو تسيير مظاهرات طلابية. النخبة الحاكمة في إيران تقدم مشروع الصفقة الجديدة على أنها انتصار لسياساتها، وقد لا يجانبهم الصواب!! يبقى أن نتوقع أن تظهر شروط الصفقة في القريب.

آخر الكلام:

فترة طويلة يبحث السياسيون التونسيون عن رجل بمواصفات (ملاك) كي يسلموه رئاسة الوزراء، عاجلا أو آجلا سوف يتبين لهم أن تونس ليس فيها صنف الملائكة!!