ليبيا بحاجة إلى «ضامن»

TT

خطف رئيس الوزراء الليبي، ثم خطف نائب رئيس الاستخبارات، وبعدها خبر مثير عن احتماء عضو بالبرلمان بقنبلة يدوية في حقيبة يدها، بخلاف أخبار التصفيات والاغتيالات لشخصيات سياسية وعسكرية ووجهاء قبليين. يقول أحد الإعلاميين: «لا أعلم إن استغثت بالشرطة إثر تعرضي لتهديد، إن كان الضابط الذي أحدثه سيحميني، أم أنه سيبلغ عني رفاقه لتصفيتي!».

كلها أنباء تشي باليأس من الوضع الليبي، وتدق ناقوس الخطر في دول حوض البحر الأبيض المتوسط والوسط الأفريقي وأبعد من ذلك.

أبرز ما يزيد الأمور تعقيدا في ليبيا، اختلاط العناصر المخربة والمتطرفة ضمن الميليشيات الوطنية التي حملت عبء التحرير من نظام القذافي على أكتافها، وهذه كانت خطة تنظيم القاعدة للتغلغل في العمق الليبي. حتى الكتائب الثورية الوطنية المقدامة باتت محل ارتياب من مجتمع كان يصفق لهم قبل عامين.

ما حصل الجمعة قبل الماضية من اشتباكات بين بعض الميليشيات المسلحة ومتظاهرين طالبوا بخروجهم من طرابلس، هو الطبقة الرقيقة من الجليد التي تغطي قيعانا من الفساد الإداري والسياسي غاصت فيه ليبيا حتى أذنيها خلال عامين من محاولة إعادة بناء الدولة. طلب رئيس الحكومة، علي زيدان، من الميليشيات الخروج من طرابلس، ليس حلا للقضية الشائكة، إلا إذا عددنا حكومة طرابلس ستنتهج منهج الإدارة المركزية البحتة في إدارتها للبلاد، وهذا خطأ كبير في إدارة دولة بهذه المساحة وهذه الظروف، ينتشر فيها السلاح أكثر من لعب الأطفال.

وحتى لا أضيع مساحة المقال في سرد أخبار تمتلئ بها المواقع الإخبارية، من المهم التركيز على الحلول والفرص.

ما فرص ليبيا في الخروج من مأزقها؟

دعوني أولا لا أخفي تعاطفا مع الميليشيات المسلحة التي تحلت بالشجاعة مدعومة بحلف الناتو أثناء مواجهتها كتائب القذافي، وتحديدا مقاتلي الزنتان، وبنغازي، ومصراته الذين تعرضوا للقتل أو الإعاقة، ودكت مدنهم دكا بسلاح القذافي الثقيل، رغم أن معظم هذه الميليشيات تشكلت من مجموعات شبابية فتية تعلمت مهارات القتال في الميدان الحقيقي. مرد التعاطف أيضا أنهم مجموعات غير مؤدلجة، ليست لهم أجندات فكرية مقلقة، بخلاف ميليشيات «أنصار الشريعة» أو المجموعة الليبية المقاتلة، التي تتبنى فكرا إخوانيا يدار من التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، أو من تنظيم القاعدة.

هذا الفرق الجوهري بين الميليشيات يتناوله الإعلام بخجل، رغم أنه أحد أهم تعقيدات الوضع الليبي. مسلحو الزنتان مثلا ليست لهم نزعة آيديولوجية ترسم لهم أهدافهم، هم مجرد جماعات قبلية مسلحة، تولت أمر معارك الأرض حينما كان «الناتو» يضرب من السماء، لهم تطلعات بنصيب مستحق من التنمية في مناطقهم وألا يمارس ضدهم التهميش لحساب جماعات مسلحة أخرى تأتمر بأمر أعضاء من البرلمان والحكومة محسوبين على «الإخوان» و«القاعدة» لتكون لهم اليد العليا في القرار، كما حصل في قانون العزل السياسي الذي فرضه «الإخوان» داخل البرلمان بقوة السلاح في خارجه، كان من نتيجته إفراغ الجيش النظامي من قياداته وضباطه، الذين عملوا مرغمين تحت إمرة القذافي، فخلت الساحة للجماعات المسلحة. إضافة إلى هدفهم الكبير من العزل، وهو إبعاد قوى التحالف الوطني التي كان المجتمع الدولي يعول عليها لبناء دولة مدنية حديثة.

في رأيي، إن ليبيا أمامها حل من شقين؛ اجتماعي وسياسي.

الاجتماعي؛ هو استغلال طبيعة المجتمع القبلية والجهوية في إشراك زعماء العشائر في حوار وطني أو، على الأقل، في خطة عمل حكومية لتهدئة الشارع ووقف العمل المسلح. الملاحظ، أن مسلحي مصراته انسحبوا من طرابلس بطلب من المجلس المحلي لمصراته، وهذا يشير إلى أن هؤلاء ليسوا عصابات مسلحة منفلتة خارجة عن القانون كما يحاول بعض المحللين تصويرهم، بل لهم مرجعية قيادية ذات تقدير واعتبار.

الحل السياسي له شقان كذلك؛ الأول مشاركة كل الكيانات السياسية في الانتخابات التشريعية في فبراير (شباط) المقبل، مهما كانت ملاحظاتهم على العمل الحكومي أو النيابي الحالي. مقاطعة أي طرف للانتخابات، خاصة المصراتيين، كما فعلوا قبل أيام بسحب ممثليهم من البرلمان والحكومة، خطأ استراتيجي فادح يشبه ما قام به سنة العراق في أول انتخابات بعد سقوط صدام حسين، وقد دفعوا ثمن ذلك غاليا.

الحل السياسي الثاني هو علاج أزمة الثقة بين عموم الليبيين، العسكريين والسياسيين والمواطنين. الدعوة إلى انخراط المسلحين في الجيش والشرطة غير مجدية بشكلها الحالي، لأن الميليشيات لا تثق بالسياسيين، ويعتقدون أن سلاحهم هو صوتهم الذي يدافع عنهم وعن حقوقهم، وأن لحظة تخليهم عنه سيأكلون كما أكل الثور الأبيض. الحكومة بدورها قلقة من المسلحين لأن بعض من يعمل في وزارتها أو حتى في البرلمان لهم ميليشيات تتنافس في الشارع مع غيرها من الميليشيات على النفوذ والمناطق. هذا فضلا عن إحساس المواطن العادي بالفساد المالي والإداري الحاصل جراء هذا التنازع. كل هذه الظروف ولدت شرخا عميقا في الثقة بين مختلف الأطياف.

ليبيا تحتاج إلى ما يمكن أن نسميه «الضامن» الذي يحوز ثقة معظم الأطراف، يجتمعون حوله ويثقون برؤيته. هذا الضامن لا يمكن إلا أن يكون من خارج ليبيا، وأن يكون عربيا، لأن الغرب لا يميل إلى مصالحات من هذا النوع في المنطقة العربية، ولم يعرف له مثل هذا التأثير. ليس بالضرورة أن تكون «طائف» أخرى وإن كانت الفكرة مثيرة وتستحق المراجعة، إنما من الأهمية أن يتدخل طرف عربي للملمة التشتت الليبي في هذه الفترة الحرجة.

من نقاط جذب الضامن للوضع الليبي، أن رئيس الحكومة لاعب شجاع على درجة عالية من القدرة على إدارة الأزمة، لكنه بلا ظهير ولا جناح. ومن ناحية أخرى، ليبيا بلد عربي قبلي وهذا النمط من المجتمعات يميل إلى التحالفات والتكتلات ذات المرجع الفردي، وبالتالي سيمنحون ثقتهم لمن يعتقدون أنه يتفهم احتياجاتهم ويحفظ حقوقهم.

إهمال الموضوع الليبي خطر كبير، ليس على أوروبا أو العمق الأفريقي، إنما له امتدادات على الوضع المصري ومنطقة الخليج، والدور العربي لا مفر من حضوره في هذه المرحلة، ليس فقط بدافع القومية العربية والواجب العروبي، وإنما لأسباب أمنية استراتيجية. ليبيا غنية بالسلاح، ومساحتها الشاسعة الخالية لا توفر أوكارا فحسب، بل مدنا للتنظيمات المتطرفة قد تشكل حاضنة مصدرة للإرهاب لكل العالم، ولنتذكر أن وجود «القاعدة» في السودان وتوطينها في الصومال لم يحم مصر والخليج منها، فالإرهابيون يوحدهم التطرف الفكري ولا تفرقهم الجغرافيا.